رواية مملكة سفير الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
[ad_1]
رواية مملكة سفير الفصل الثاني 2 بقلم رحمة نبيل
رواية مملكة سفير البارت الثاني
رواية مملكة سفير الجزء الثاني
رواية مملكة سفير الحلقة الثاني
“إن كانَ لَيْلُكَ قد كساكَ بُحزنهِ
ما ذنبُ صُبحِكَ أن يراكَ حزينا؟!”.
صلوا على نبي الرحمة
_________________
تسير والحذر رفيقها، تشعر أنها تود لو تطير متجاوزة تلك المنطقة، لا ترغب أن تمر بها وتعرض آذانها العزيزة لصيحات النساء، وتهكمات الثرثارات منهن، الأمر وما فيه أنها ملت كل ذلك، والأصح أنها ملت الحياة في تلك المنطقة، ولولا كسرة الخبز الجافة التي تتناولها كل يوم في غرفتها الرطبة العفنة، لكانت رحلت عن المكان بأكمله، لكن ماذا تفعل وحياة التقشف تناديها وتغريها .
وقع بصرها فجأة على عربة فواكهة بها اطباق جاهزة من فواكهة متنوعة، ثمرة تقريبًا من كل نوع، وفوق الطبق كُتب ( ٢٠ جنيهًا بدلًا من ٢٥ ).
ها انظروا المزيد من الاغراءات كي لا ترحل عن المكان، بالله عليكم كيف تترك تلك المنطقة التي تبيع أربعة ثمرات فواكه بخصم خمسة جنيهات ؟! أين قد تحصل على مثل تلك الرفاهيات ؟!
خرجت تبارك واخيرًا من تلك المنطقة بعدما استطاعت تلاشي ألسنة سكانها اللاذعة، انحرفت في شوارع عدة تركض بين برك المياه الملوثة، غير مهتمة بحذائها، فهو وَسخ على أية حال ..
توقفت أمام بناية صغيرة من ثلاثة أدوار، تتنفس بصوت مرتفع تجفف عرق وجهها متحركة صوب الداخل، وقد ظهرت لافتة مهترئة تعلو مدخل البناية كُتب عليها ( مستشفى الأمل والحياة ) حيث يُقتل الأمل وتتلاشى الحياة .
ابتسمت تستقبل يوم جديد في عملها بكامل الطاقة والحيوية، تفتح ذراعيها بسعادة، وبدلًا أن تستقبل طاقتها الإيجابية، استقبلت طفل صغير يبكي بصوت مرتفع وصديقتها تقول :
” امسكي يا تبارك العيل الزنان ده لغاية ما أمه تخرج من الكشف، أنا مش فاهمة الناس اللي بتيجي يكشف ويجيب عيل معاه ويرميه لينا ”
نظرت تبارك بصدمة لذلك الصغير الذي يقبع بين أحضانها يبكي ويجذب حجابها، بينما هي تحاول أن تتلاشى يده قائلة بصدمة :
” طب وأنا مالي يا سميرة، خدي الولد ده أنا مش فاضية عندي مرور على العنابر ”
لكن سميرة كانت قد رحلت بالفعل، وتبارك نظرت للصغير الذي كان صوته قد أيقظ الاموات من قبورهم، زفرت تتحرك به صوب غرفة تبديل الثياب تاركة إياه على الأرض تختفي خلف ستار لتبدل ثيابها لثياب العمل، إذ كانت تبارك تعمل في هذه المشفى المتواضعة ” ممرضة ” .
خرجت تعدل من وضعية ثيابها، تحمل الصغير مجددًا تضع القلم في فمها وتمسك مدونة بين أصابع يدها الحرة تقول :
” همشي أنا بيك في المستشفى كده ؟؟ أمك بتولد ولا ايه ؟! كل ده كشف ؟؟”
ختمت حديثها تتحرك دخل بعض الممرات كي تمر على بعض العنابر تطمئن على المرضى والصغير ما يزال يبكي بين ذراعيها، وبدأت بعض الجمل الحانقة تخرج من فم جميع المسطحين على الأسرة ..
” يا ختي وهي ناقصة دوشة عشان تجينا بابنك؟!”
” كنتِ سبتيه مع أبوه يا بنتي بدل بهدلتك بيه دي ”
” ايه الزن على الصبح ده ما ترضعيه يا ختي ولا تشوفيه ماله؟ ”
زفرت تبارك تحاول أن تُصمت ذلك المزعج الصغير تعتذر منهم بهدوء شديد :
” مش ابني والله ولا اعرفه ولا أعرف أبوه، أنا متضررة زيي زيكم ويمكن اكتر منكم، حقكم عليا والله….. يا بني سيب ام الطرحة ”
زفرت تلقي المدونة ارضًا، ثم تحركت خارج المكان بأكمله تبحث عن سميرة كي تفرغ بها كامل سخطها على ما يحدث، لكن فجأة توقفت أقدامها بصدمة في منتصف الطريق حينما ابصرته يتهادى نحوها بطلته المبهرة، يسير متمخترًا كالطاووس يجذب نحوه أنظار جميع إناث البغبغاوات حوله، وهي لم تكن أفضل منهن إذ انجذبت له ولهيبته كما الفراشة لللهب .
ابتلعت ريقها تسير بهدوء وهي تضم الصغير لها، تدري جيدًا أنها لن تلفت يومًا أنظاره ولن يراها، وهذا للحق جيد لها، فهي فقط تحب مشاهدته من بعيد وتتأمل وسامته كما الجميع هنا، لكن ومن بين كل تلك الغمامات توقفت فجأة على صوته يقول بتعجب :
” تبارك أنتِ خلفتي ولا ايه ؟!”
توقفت تبارك بصدمة وقد اتسعت عيونها، لا تصدق أنه يعرفها ويعرف اسمها، وفي المرة الوحيدة التي يقرر بها ذلك المغرور أن يهبط عن عرشه ليتفقد الرعية ويمن عليها بحديث، تكون وهي حاملة بين ذراعيها صبي صغير باكي .
رفعت عيونها له وقالت بعدم فهم ولهفة :
” خلفت ايه ؟؟ لا لا ده مش ابني أنا اساسا مش متجوزة يا دكتور ”
رفع الطبيب حاجبه بعدم فهم :
” مش متجوزة ازاي ؟؟ هو مش أنتِ اتجوزتي من وأنتِ ١٥ سنة وكان فيه مشاكل مع جوزك عشان بيضربك وغضبانة ؟!”
كانت تبارك تتابع قصة حياتها المأساوية على لسان الطبيب الذي أُعجبت به، يصف معاناتها مع زوجها القذر الذي يريها الويل ألوانًا منذ تزوجت به وهي فتاة قاصر.
آهٍ فقط لو تمسك به تقسم أنها ستذيقه الجحيم، لكن للاسف الشديد هي لا تستطيع؛ لأنها ببساطة ليست متزوجة .
ابتسمت تبارك تقول بعدم فهم واستنكار :
” ايه ايه ؟؟ مين اللي قال لك كده ؟! أنا متجوزة وغضبانة ومخلفة ؟؟”
تراجع الطبيب للخلف بعدم فهم لنظراتها المخيفة تلك، ثم نظر خلفه صوب الممرضات اللواتي كن يحدقن نحوهما بفضول كبير يقول :
” سميرة وعبير اللي قالولي كده ”
رفعت تبارك عيونها فورًا تجاه سميرة وعبير، إذ انتفضتا في وقفتهما تبعدان عيونهما عنها برعب كبير، وتبارك تتوعد لهما، تنفست بصوت مرتفع تقول بلا اهتمام :
” لا يا دكتور أنا لا متجوزة ولا غضبانة ولا نيلة، والعيل الزنان ده ابن سميرة اساسا، بس عشان عبير مجابتش عيالها الاتنين انهاردة يلعبوا معاه عمال يعيط وانا قولتلها هاخده اسكته ”
أنهت حديثها تستأذن منه ترحل برأس مرفوعة تشعر بالغضب والحنق تاركة خلفها الطبيب يحدق في ظهرها بريبة كبيرة، متعجبًا تصرفاتها، ومنذ متى لم تكن تصرفات تبارك غريبة، تلك الفتاة التي تدور حولها علامات استفهام كثيرة منذ جاءت للعمل في المشفى .
اقتربت تبارك من سميرة تعطيها الصغير مبتسمة بهدوء :
” ابنك يا حبيبتي ابقي سكتيه بنفسك، جاتكم الهم والواحد مش بياخد من وراكم غير المصايب ”
تحركت بعدها تبارك صوب عملها ترغو وتزبد، تحاول تعديل وضعية حجابها بعدما افسدها ذلك الصغير، وافسد كذلك فرصتها مع ذلك المغرور الوسيم …
للجحيم جميعًا .
________________________
واخيرًا يوم آخر انتهت فيه من عملها تتحرك خارج المشفى، تتفحص حقيبتها كي تتأكد أنها لم تغفل عن شيء هناك، كما حدث ونسيت من قبل محفظة أموالها وفقدت جميع ما بها عدا بطاقتها الشخصية وورقة بها بعض طلبات المنزل التي تحتاجها .
ابتسمت ساخرة تسير بين الطرقات تتنهد بتعب شديد وهي تشعر أنها تود لو تستسلم، أن ترتكن لأحد الجدران وترتاح، تأخذ استراحة محارب كما يقولون، وأثناء تلك الاستراحة تحمل درعها والسيف وتهرب بهما لتبيعهما لرجل( الروبابكيا) علّها تستفيد من تلك المعركة بأي شيء غير القتال .
وعلى ذكر القتال رأت تبارك معركة يومية تلوح لها في الأفق، حينما أبصرت جارتها الودودة صاحبة اللسان السليط تقف أمام بنايتها تحمل بين أناملها بعض الإبر الطبية صارخة بصوت جهوري، وبيدها الأخرى تمسك صبي بعمر العشر سنوات يفوقها طولًا وهي تقول بحنق :
” ما تهمد يا زفت واستنى أما التمرجية تيجي ”
تمتمت تبارك بحنق شديد تعض شفتيها :
” تمرجية ؟؟ اخرتها بعد سنين دراسة وبهدلة في الخدمة ؟؟”
تنفست بصوت مرتفع تستدير لتعود وتغير طريقها، أو تختفي لساعات حتى تمل جارتها وترحل مع ذلك الغبي ابنها الذي تأتي به يوميًا لتعطه هي حقنته ..
ولم تكد تستدير حتى سمعت صيحة مرتفعة تقول بتهليل :
” اهي جات اهي، تبارك، تعالي الله يكرمك يا ختي ادي الواد ده الحقنة لاحسن مستنياكِ من بدري وميعاد الحقنة عدى ”
أغمضت تبارك عيونها بغيظ شديد، قبل أن تمحي غيظها وترسم بسمة واسعة تستدير ببطء تقول باعتذار خافت :
” معلش يا ام أنور اصل أنا مش معقمة ايدي وكنت بتعامل مع مرضى كتير وكده ممكن أأذي أنور، ممكن تاخديه الصيدلية اللي على اول الشارع فيها شاب يديله الحقنة عادي ”
وقبل أن تركض صوب منزلها اوقفتها ” أم انور” باعتراض :
” هو ايه أصله ده يا ختي، هو أنتِ هتعملي عملية ولا ايه، بقولك تعالي ادي الواد الحقنة خليني ارجع البيت الاكل على النار والحاج زمانه راجع من الجزارة ينكد عليا، شكل كده طلاقي على ايدك ”
اتسعت أعين تبارك من كل تلك الكلمات :
” كل ده عشان حقنة؟! حياتك كلها واقفة على حقنة ابنك ؟؟ وبعدين هو مش خف ولا هو كل ما يلاقي نفسه فاضي يجي ياخد حقنة ؟؟”
أخذت تبارك الإبرة تجهزها أثناء حديثها وأم أنور تتحدث بكلمات كثيرة كعادتها :
” طبعا ما أنتِ معندكيش عيال وراجل في رقبتك ومش عارفة المرار اللي الواحد شايفه، ألا صحيح يا بت يا تبارك هو مفيش حد كده ولا كده ؟؟ ”
نظرت تبارك حولها قبل أن تعود لها بنظرها :
” لا مفيش حد يا أم أنور”
” يابت ركزي أنا قصدي عريس ….خطيب ”
أجابت ببساطة شديدة وهي تخرج الهواء من الإبرة :
” لا مفيش ”
التوى ثغر السيدة وهي تمتص شفتيها، تفتح فمها على وشك نطق جملة تحفظها تبارك عن ظهر قلب؛ لذلك قالت تقاطعها :
” تعالى ادخلي جوا عشان اديله الحقنة ونخلص ”
وقبل أن تتحرك أمسكت بها أم أنور تقول بجدية :
” جوا ايه يا ختي ما تديها للواد خلينا نخلص هو يعني في حد ؟! اقلع يابني خليها تـ ”
وقبل أن تضع أم أنور كلامها حيز التنفيذ صرخت تبارك تمسك يدها بصدمة تنظر حولها بشحوب وصدمة من كلماتها :
” يقلع ايه ؟؟ أنتِ بتعملي ايه أنتِ ادخلي جوا يا ست، عايزة تفضحي ابنك في الشارع هو مفيش احساس ولا حياء خالص ؟!”
رمقتها السيدة بحنق وقبل أن تتحدث قال الصبي وقد بدأ يتململ في وقفته بحنق شديد :
” انا زهقت ياما وعايز ادخل الحمام، خلصوني بدل والله امشي ومش هاخد حقن ولا نيلة”
صفعته والدته تزجره :
” ما تستنى مسروع على ايه ؟؟ ما تخلصينا يا ختي أنتِ كمان ”
كانت تبارك تشعر بعدم الارتياح، تنظر حولها محاولة أن تجد أي شيء ينقذها من كل هذا، وحينما يأست، وضعت الإبرة بيد أم أنور تقول بجدية ورفض تام :
” أنا جهزت الحقنة اهي يا أم أنور، خدي ابنك وروحي بيه الصيدلية عشان أنا افتكرت فجأة اني نسيت حاجة مهمة، عن اذنك”
وبمجرد انتهاء كلماتها ركضت على الدرج بلهفة تتجاهل صيحات السيدة المستنكرة وصراخ الصبي أنه يود الرحيل، ومن ثم وصلة مرتفعة من السباب لحقت بها حتى دخلت لشقتها المتواضعة تغلق الباب خلفها تتنفس بصوت مرتفع تلقي الحقيبة على الأرض متحركة صوب المرحاض تغسل يديها :
” يارب توب علينا من الشغلانة دي ”
أنتهت ترفع عيونها صوب المرآة تحدق في وجهها وملامحها، بشرة سمراء بعض الشيء، مع ملامح صغيرة تبدأ بعيون بلون العسل الصافي تحدها رموش كثيفة وأنف صغير مع شفاة متوسطة الحجم، مدت يدها تنزع حجابها بشرود وهي تداعب خصلاتها التي كانت مقدمتها هائجة متقصفة مذكرة إياها بضيق حالها وعجزها عن شراء مستلزمات العناية بالشعر كما ترى الجميع يفعل، وكأنها تمتلك وقتًا حتى لتفعل …
زفرت بصوت مرتفع تطيل النظر بنفسها تملئ كفيها بالمياه، ثم بدأت تمسح على شعرها في محاولة يائسة لردع تلك الخصلات وإحباط تمردها، وحينما انتهت ابتسمت بسخرية :
” شكلي كده هحتاج اشتري علبة كريم عشان الشوية دول، وادي نص المرتب راح، بس ولا يهمني اهم حاجة التألق ”
صمتت ثم تحدثت بتهكم من ذاتها :
” بس لمين ؟؟ اخرتها ايه ؟؟ ومع مين ؟!”
كانت تتحدث لنفسها وهي تنظر للمرآة قبل أن تتشقق المرآة فجأة بشكل مرعب جعلها تطلق صرخة مرتعبة تعود للخلف، ابتلعت ريقها تقول :
” ايه اللي حصل ده ؟؟ ايه اللي حصل ؟؟؟”
تنفست تقترب من المرآة تتحسسها بريبة، لربما ذلك الشيء الذي يصيب الزجاج فيؤدي لحدوث هشاشة شديدة لجزئياته ويتحطم بسهولة، نعم هذا هو التفسير الوحيد لمـ
وفجأة توقفت أفكارها مطلقة صرخة عالية تندفع للخلف ساقطة ارضًا على ظهرها، تزحف برعب وهي ترى شعاع نور يخرج من المرآة …..
________________________
قلعة شامخة مرصعة بالعديد من الأحجار الكريمة، نُحتت داخل أحد الجبال العظيمة البيضاء، قلعة تنافس الجبال طولًا، يحيطها العديد من المروج الخضراء والشلالات التي تبدو كالسحاب لشدة بياض المياه بها، قلعة لو قضى الشعراء قرونًا لعجزوا عن كتابة بيت شعر واحد يوفيها حقها…
وداخل تلك القلعة ..
يسير هو بكل هيبة وقوة مرفوع الرأس، شامخ، لا ينظر لموضع قدمه بل يسير مدركًا أين تحط قدمه، وهل هناك ركن واحد يجهله داخل جدران تلك القلعة ؟؟ كيف وهو ملكها وصاحب كل حجر بها ؟!
يتحرك بسرعة وخطوات تهز الأرض أسفله، وخلفه يركض العديد من الرجال الذين لا يقلون عنه في الهيبة أو الجسد أو حتى وسامة الملامح التي عُىف بها رجال تلك المملكة.
يتحرك بين ممرات القلعة وملامحه لا تنذر بالخير، وبمجرد أن وصل لإحدى الغرف توقف يقول بصوت قوي ونبرة مخيفة :
” ابلغ الملكة أنني اطلب اذنًا بالدخول ”
هز أحد الحراس رأسه في طاعة عمياء يتحرك داخل مخضغ الملكة وغاب ثواني قبل أن يخرج يحرك رأسه ببطء :
” الملكة تخبرك أنها بانتظارك مولاي ”
تحرك الملك صوب الغرفة مندفعًا بعدما أشار لمستشاريه بالتوقف، يدخل كالعاصفة الهوجاء لا يرى أمامه، وبمجرد أن سمع صوت غلق الباب نظر بعين مشتعلة صوب والدته التي كانت تجلس على فراشها تحمل بين أناملها كتاب تطالعه بهدوء شديد …
” بني، لمن أدين بالشكر لأجل حضورك لمخضعي ؟؟”
ارتسمت بسمة قاسية أعلى فم الملك وقد شعر بالغضب يتملك منه :
” لأفكارك العظيمة مولاتي، تدينين بالشكر لأفكارك العظيمة التي لا يضاهيها افكار في الممالك الأربع ”
ارتسمت بسمة هادئة على فم الملكة تدرك أن ما فعلته وصل له لتقول برزانة وتعقل :
” سأعتبر هذا مدحًا بني ”
” رجاءً لا تجبريني على الضحك أمي، فأنا وأنتِ نعلم أن حديثي لم يكن مدحًا بأي شكل من الأشكال ”
صمت يقول بأعين مشتعلة :
” من ذا الذي منحك حق التدخل بأموري الخاصة مولاتي، من الذي أخبرك أنني احتاج افكارك العظيمة لتدبر أمور مملكتي؟!”
رفعت الملكة عيونها له ببطء، ثم قالت وكأن صرخاته لا تسوءها، أو أن نظراته السوداء لا تخيفها :
” وهل تسمي خوفي عليك تدخلًا أنا أصدر ما أراه يصب في مصلحتك ”
صرخ في وجهها بجنون وقد أفلت عقال صبره، يشعر بالغضب يُصب داخل أوردته، يسير بها مجرى الدماء :
” ولأجل هذا عمدتي للاعتراض على قراري، وتحدثتي أمام الجميع بأمرٍ يقضي بابتعاد قائد الجيوش عني ملقية إياه في غياهب الحرب، ماذا إن ناله سوء ؟؟ كيف سأتدبر أمري لحين أجد مخلصًا مثله ؟؟”
” وماذا تريد مني أن أفعل وأنا أراك تقحم نفسك في حروب لا قِبل لك بها؟؟ وإن لم يكن قائد جيوشك هو من يقود تلك الحرب فمن سيفعل بالله عليك ؟؟”
اشتعلت عيونه يقترب منها خطوات بطيئة دبت رعب داخل صدرها، تدرك جيدًا أن ولدها ليس من الحلم الذي يجعله يتغاضى عن أفعالها كثيرًا، لكن حتى وإن نفاها لاعمق بئر في المملكة فلن تتراجع عن حمايته .
صدر هسيس من فم الملك يقول :
” أمور جيشي وأمور مملكتي أنا من اتحكم بها، لا أنتِ ولا أحد آخر يفعل، سمعتي …مولاتي؟؟”
تنفست والدته بصوت مرتفع ليتحرك مبتعدًا عنه، لكن فجأة توقف مجددًا واستدار لها نصف استدار يضيف :
” وصحيح ليس فقط أمور جيشي، توقفي عن التدخل في كامل شئون حياتي، فلا ينقصك سوى إخبار جميع اميرات الممالك الأربع أنني من اليأس الذي يجعلني أعرض نفسي عليهن ارتجي منهن امرأة تناسبني ؟؟ بأي حق تفعلين بي ذلك ؟؟”
” بحق أنني والدتك، أنت حتى هذا اليوم لم تجد زوجتك التي تتغنى بها ”
تنفست بصوت مرتفع تقترب له تربت على وجنته بحنان شديد :
” اسمع بني أنا أعلم جيدًا أنك مستاء لأنك… لأنك وحتى هذا العمر لم تجد امرأتك المنشودة كما حدث لجميع رجال العائلة قبلك، لربما بالبحث تجدها، دعك من تلك الخرافات التي تقول أن زوجة الملك لابد أن يلقيها القدر على اعتابه، ويسوقها له بأي طريقة من الطرق، تزوج من أي أميرة تعجبك ودعك من تلك الترهات ”
ابعد الملك وجهه عن يد والدته يقول دون نقاش :
” نعم تلك التراهات التي ألقت بكِ بين أحضان والدي باكثر الطرق غرابة، زوجتي ستأتي لي يا أمي وحتى ذلك الحين احرصي على عدم الزج بنفسك داخل أموري الخاصة رجاءً، والآن اسمحي لي بالمغادرة ”
ختم حديثه يتحرك صوب الباب يطرقه بقوة وحينما فتح غادر تاركًا والدته تنظر في أثره بصدمة سرعان ما تحول لغضب شديد …
وهو خرج من الجناح الخاص بوالدته يقول بجدية :
” أحضروا لي العرّيف …”
__________________
صوت القرآن يصدح في المنزل بأكمله وهي تجلس أعلى الأريكة في بهوه، تمسك بين أصابعها حبات مسبحتها التي أهداها لها الحاج سالم صاحب البناية عقب عودته من الحج .
كانت تستغفر وتدعو ربها، تشعر بالخوف من كل شيء وكل همسة تصدر في المنزل تتسبب في انتفاضة جسدها بقوة، ما يزال مشهد انشقاق زجاج المرآة وخروج ضوء قوي منه يرعبها، تنتظر أن يحل الصباح بفارغ الصبر كي تركض للمشفى حيث الجميع، حيث لن يجدها ايًا كان من ينتوي لها سوء .
فجأة انتفض جسدها بقوة بسبب طرق الباب، نظرت صوبه ثم حركت عينيها لساعة الحائط تتبين الوقت لتجد أن الوقت بالكاد اقترب من آذان المغرب، اعتدلت في جلستها :
” لسه المغرب مأذنش ؟؟ ولا الليل ليل ؟؟ امال الرعب بدأ بدري ليه ؟؟”
تحركت من مقعدها وهي ما تزال تحمل بين أصابعها مسبحتها، اقتربت من الباب تقول بخفوت :
” أيوة مين ؟؟”
” أنا احمد يا تبارك ”
نظرت تبارك من أحد تشققات الباب تحاول التأكد أن ذلك هو احمد نفسه ابن الحاج سالم صاحب البناية :
” وأنا ايه يأكدلي أنك احمد ومش قرينه ؟؟ قول أمارة ”
أجاب احمد ببلاهة وغباء بعض الشيء :
” امارة”
استمعت تبارك لتلك الكلمة وضيقت عيونها بتفكير قبل أن تنفرج اساريرها وتتنفس الصعداء تحضر حجابها تضعه أعلى رأسها متأكدة أن ذلك الغباء لا يخرج سوى من أحمد بالفعل :
” أيوة هو أحمد فعلا ”
وعلى الفور فتحت تبارك الباب مطمئنة :
” أمان”
نظرت له تبارك بقامته الصغيرة، فقد كان طفل في السابعة من عمره، ذو ملامح بها لمحة من التشرد تشعر أنك تقف أمام أحد قطاع الطرق، لكن بهيئة طفل، تجاوزت تبارك كل ذلك تتساءل بجدية :
” خير ؟؟”
” ابويا بيقولك تعالى الحقي ستي لاحسن بتموت ”
حدقت به تبارك بعدم فهم تجذب باب منزلها تدفع الصغير صوب الدرج وهي تشعر بالبلاهة الشديدة :
” هي مش ستك دي سيبتها امبارح وهي ميتة وبعتوا جبتوا الكفن والمغسلة ؟!”
أجاب أحمد بجدية يضع كفيه داخل جيب بنطاله يهبط معها الدرج يتحدث بنبرة اشعرتها أنها تتحدث مع رجل ناضج :
” لا ما هو اصل لما أنتِ مشيتي هي صحيت تاني، حتى امي قالت عليكِ غبية ومبتفهميش وبتفوّلي على ستي ”
توقفت تبارك في سيرها وقد بدأت ملامحها تشتعل بشكل مرعب، بينما الصغير استرسل في الحديث دون أن يتوقف عن السير ولم ينتبه لتوقف تبارك، التي كانت تشعر برغبة عميقة تندفع داخلها أن تهبط وتوسع والدته ضربًا، بالله ماذا تفعل إن كانت والدتها صاحبة المائة وخمسة أعوام تموت يوميًا ثلاث مرات، بل وتنقطع أنفاسها وتتوقف ضربات قلبها ؟؟
دخلت تبارك المنزل الخاص بالحاج سلامة تستقبلها صرخات والدة احمد ونحيبها وولولتها وهي تضرب فخذيها جوار فراش والدتها :
” اه يا اما هتيسبيني لمين من بعد ياما، اه يا حبيبتي بُعدك على عيني يا ختي ”
نظرت لهم تبارك ومن ثم نظرت للسيدة العجوز، تقترب منها بأقدام متعجلة تفحصها دون كلمة، تفحص النبض والتنفس، ومن ثم رفعت عيونها للجميع الذين كانوا في انتظار كلمة منها، وهي ابتلعت ريقها تقول جملة لم تعلم أنها قد تنطقها يومًا أو يستسيغها عقلها، لكن تلك العجوز أربكت جميع ما تعلمته وأثبتت أن الإنسان يستطيع الحياة حتى بعد توقف ضربات قلبه وأنفاسه :
” أنا مش عارفة هي ماتت ولا لا، بس عامة هو مفيش نفس ولا نبض ”
هتفت أم أحمد بأعين دامعة :
” يعني ايه مش عارفة ماتت ولا ايه ؟؟ هو أنتِ مش دكتورة ؟؟”
” لا أنا ممرضة مش دكتورة، بعدين أنا ايش عرفني مش يمكن تكون بتعمل بروفة ولا بتجرب الموت، هي يعني أول مرة اجي اكشف عليها وملاقيش نبض ؟؟ ما هي كل يوم نبضها بيقف، مش عارفة بتشحن ولا بتعمل ايه ؟!”
نظر لها الجميع حولها بعدم فهم لتقول هي وقد شعرت أن كل ما تعلمته لا يفيدها الآن:
” بصوا هي تقريبا ماتت، البقاء لله ”
وبعد تلك الكلمات ارتفعت شهقات صادرة من جسد العجوز المسطح على الفراش، تجاهد لالتقاط أنفاسها وكأنها خرجت لتوها من اعماق البحار .
أشارت لها تبارك بانتصار وكأنها تثبت لنفسها أنها محقة :
” اهو شوفتوا، مستنية تسمع إعلان وفاتها عشان تفوق، دي بتدلع يا أم أحمد كل يوم توقف نبضاتها شوية عشان تعرف معزتها عندكم مش اكتر ”
نظرت بعدها لسالم تقول:
” عن أذنك يا حاج سالم، لو حصل وفقدت الاتصال بالعالم الخارجي تاني، سيبوها شوية وهي هتصحى لوحدها، حمدلله على سلامتك يا حاجة ”
ختمت حديثها تخرج من الشقة ملتوية الثغر، تشعر بالنقم على تلك الوظيفة التي لا ينالها منها سوى المصائب، تحركت صوب شقتها الصغيرة الدافئة المرعبة كي ترتاح قليلًا، قبل أن تنهض وتذهب للعمل في اليوم التالي …
دخلت الشقة تسير بحذر بين طرقاتها ووجيب قلبها يعلو تخوفًا مما يمكن أن يحدث، تحاول إقناع عقلها أن الأمر لربما كان صدفة أو مجرد تخيلات لا أكثر.
ألقت جسدها على الفراش تستقبل اغطيته المريحة بتعب شديد، تغلق عيونها في انتظار أن تسحبها أحلامها بعيدًا عن هذا العالم .
وكان لها ما تمنت إذ سقطت في نوم عميق تخلله العديد من الأحلام، كان أكثرهم وضوحًا حلم لها تقف فوق عرش تراقب أمامها مدينة بيضاء كبيرة تحيط بها شلالات وجبال بيضاء.
نظرت تبارك حولها بتعجب شديد ولم تكد تستوعب ما يحدث إذ شعرت فجأة بيد تضم خصرها وصوت رجولي دافئ يهمس لها في أذنها بنبرة اجشة وكلمات مريبة :
” دلم برات تنگ شده پرنسس ”
________________________
يعتلي عرشه بكل كبرياء في انتظار أن يأتيه عرّيف المملكة، والذي يعلم كل ما يدور حوله ويفقه بكل شيء، ليس لأنه ساحر _ معاذ الله_ بل لأن لقب عريف هو لقب يُمنح لكل شخص مثقف، مدرك لجميع العلوم، حكيم ذو رأي صائب ونظرة مستقبلية صحيحة، وتحت يد العريف يتدرب شخص تنبأ له الجميع بمستقبل باهر، ليحمل هو لقب العريف من بعده .
تحرك العريف داخل قاعة العرش والتي كانت واسعة ذات نوافذ تبلغ طول الجدار، مما يجعل الشمس تدخل للقاعة وتنعكس على جميع ارضياتها البيضاء اللامعة ..
كان يسير منحني الظهر جامد الملامح، ناقم على كل شيء _ كما هو المعتاد منه _ يزفر بحنق كلما رأى وجه انسان في طريقه، لطالما كان العريف في هذه الحقبة من أكثر الشخصيات النقمة المتذمرة من كل شيء، والذي لو كان بيده تمني شيئًا ويتحقق لتمنى زوال جميع البشر .
يقبع بومة سوداء اللون على كتفه، وقد كان ذلك هو الكائن الحي الوحيد الذي قد يتقبله العريف في هذه الحياة بعد كتبه العزيزة بالطبع .
توقف أمام العرش يرمق الملك بحنق مكبوت حاول دفنه خلف جبال احترام وهمية، يقول بصوت خافت أجش واعينه تلتمع خلف خصلاته الطويلة الرمادية التي تكاد تخفي نصف وجهه :
” مولاي، طلبت رؤيتي ؟؟”
رفع الملك عيونه للعريف يحدق به مطولًا قبل أن يقول :
” هل وصلت لشيء بخصوص ملكتي أيها العريف ؟؟”
تأفف العريف داخليًا، ثم دار بنظراته في المكان يحاول أن يمنح عقله فرصة إيجاد رد مناسب على ذلك الملك المدلل الذي يجذبه من بين كتبه فقط ليسأله إن وجد له زوجته، ليس وكأنه يعمل مأذونًا شرعيًا .
” مولاي اعذرني، لكن أنا بحثت كثيرًا عن حالة تشبه حالتك في تاريخ الأسرة الحاكمة ولم يواجهني شيء شبيه به، لطالما كان مقدرًا لملوك هذه الأسرة أن يجدوا انصافهم بسهولة أو أن يسوقهم القدر صوبهم، لكن امهلني بعض الوقت لعلي اجد ما يزيل تلك الحيرة عنك ”
نظر له الملك قليلًا، بينما العريف يبتسم له بهدوء وداخله يتأفف في انتظار لحظة صرفه من المكان بأكمله، والبومة على كتفه تصدر صوتًا مزعجًا وكأنها تشارك مالكها الرأى في الرحيل من ذلك المكان .
تحدث الملك بنبرة هادئة بعض الشيء وبتحذير مبطن :
“لكم من الوقت تعتقد أنني سأصبر ؟؟”
ابتسم العريف بسمة صغيرة هادئة ورزينة :
” لحين نجد ما تريده مولاي، فلا أظن أن قلة صبرك قد تُعجل من ظهور ملكتنا ”
ابتسم الملك بسمة جانبية، يدرك أن ذلك الشيخ يعلم جيدًا كيف يتحدث وبما يتحدث، ومتى يتحدث، لذا لن يصل معه لحل سوى أن يصمت ويقول بهدوء مشيحًا بيده :
” لك ما تريد، لكن في النهاية عد لي بخبر يقين”
هز العريف رأسه يستأذن الملك راحلًا مبتسمًا بسمة واسعة أن قد تخلص منه، يهرول صوب مكتبته قبل أن يغير الملك رأيه ويستدعيه مجددًا.
دخل المكتبة بملامح واجمة جذبت انتباه تلميذه النجيب الذي اعتدل يقول ببسمة :
” مرحبًا أيها العريف لن تصدق ما اكتشفته للتو و…”
تجاهله العريف يطيح بالبومة عن كتفه مغتاظًا، لتطلق البومة صوتًا منزعجًا تحاول التحليق بعيدًا عنهم حتى يتحسن مزاج العريف :
” لست مهتمًا بما اكتشفته يا ولد، دعني وشأني، لارى من أين سأحصل لذلك المدلل على عروس، هل أذهب واجوب أروقة سفيد مناديًا أن الملك يبحث عن الملكة المفقودة ؟؟”
نظر الشاب ليده التي تحمل خارطة النجوم يقول بصوت خافت :
” لقد علمت للتو أن موعد القمر الدموي قد اقترب وسيوافق منتصف هذا الشهر و…”
قبل أن يكمل كلماته تحرك له العريف بسرعة كبيرة يلقي بالكتاب الذي كان يحمله في الهواء ويصطدم في البومة التي كانت تحاول الفرار من المكان ضاربًا إياها في الجدار لتتساقط ارضًا بقوة ..
ابتسم العريف يمسك باكتاف الشاب متسائلًا بأعين تلتمع :
” ماذا قلت مرجان ؟؟ هل سمعتك للتو تذكر القمر الدموي منتصف الشهر ؟؟”
هز مرجان رأسه بتعجب لحماس العريف، ليس وكأنه لا يعلم معلومة كتلك، فهذا الرجل أمامه يحفظ جميع الكتب في هذه المكتبة عن ظهر قلب، والتي لم يكن عددها بالهين أبدًا .
ابتسم العريف بسمة غريبة وقد بدأت عيونه تلتمع بنظرة مريبة جعلت مرجان يعود للخلف :
” إن تأكدت مما يدور بعقلي منذ أيام يا مرجان وربطته بما قلت أنت لتوك ووصلت لما يدور بخلدي من شكوك، سنكون على أعتاب معجزة كبيرة يا فتى ….”
أنهى حديثه يتحرك بسرعة صوب أحد رفوف المكتبة يسقط الكتب دون اهتمام بحثًا عن كتاب بعينه، وقد كانت الكتب تتساقط واحدة تلو الأخرى على رأس البومة المسكينة التي تحاول النهوض وتفشل كل مرة ..
واخيرًا امسك العريف أحد الكتب يطالعه باهتمام هامسًا :
” أجمع لي جميع الخرائط في تلك المكتبة، فلدينا ساعات طويلة من البحث يا مرجان….”
_____________________
زفر بصوت مرتفع وقد ملّ إلحاح تلك الفتاة والتي قفزت له منذ الصباح تتحدث له بأمور غريبة لا يفهم منها شيئًا، وتبارك تصر أنه من يستطيع مساعدتها لمعرفة ما يحدث لها في الآونة الأخيرة .
” يا عم متولي يعني يهون عليك تبارك اللي دايما تيجي تنفض معاك المكتبة لما ضهرها يتكسر تكون محتاجة مساعدتك وتتجاهلها ؟!”
عدّل متولي من نظارته وهو ينظر لتلك الفتاة بحنق :
” هو أنا اعرفك اساسا ؟؟ أنا أول مرة اشوفك ”
اقتربت منه تبارك تراقبه أعلى الدرج الخشبي يقوم بترتيب أرفف الكتب وهو يطالعها بتهكم ورفض لوجودها في المكتبة الخاصة به في هذا الوقت الذي لا يخصصه لاستقبال القراء والمثقفين .
” ايه ؟؟ لحقت تنسى ؟؟ ده أنا الإجازة اللي فاتت طلع عيني في ركن القواميس اللي هناك دي، فاكر لما قولتلي أنك بتعرف تتكلم كل اللغات دي ؟؟”
هبط الرجل يدفع بها باستخدام كتاب بيده :
” لا مش فاكر، بعدين أنا مش حابب عطلة هنا، عايز اخلص ترتيب المكتبة قبل ما القراء يبدأوا يتوافدوا للمكتبة ”
تشنج وجه تبارك تركض خلفه بين ممرات المكتبة، تبحث بين الكتب عن ذلك الرجل ناكر الجميل :
” قراء مين اللي هيتوافدوا يا عم متولي ؟؟ ده آخر حد دخل المكتبة دي كان رجال المقاومة ايام الاحتلال الإنجليزي عشان يعملوا اجتماع مغلق بعيد عن عيون الانجليز، وعشان عارفين إن محدش بيعبر مكتبتك ويدخلها اساسا فكانت احسن مكان ليهم ”
نظر لها متولي ينظف نظارته كي يبعد عنها ذرات الغبار :
” أنتِ عرفتي منين المعلومة دي ؟؟ محدش يعرف كده غير أنا وأعضاء المقاومة الكرام فقط ”
” الله يرحمهم جميعًا محدش عايش فيهم غيرك، وأنت اللي قولتلي كده آخر مرة وانا بنضف المكتبة، ومش بس آخر مرة، ده أنا كل مرة أخطي فيها المكتبة لازم تقعدني وتحكيلي دور المكتبة في المقاومة الإنجليزية ”
جلس متولي على مقعده يتنفس بصوت مرتفع وقد بدأت ترتسم بسمة واسعة على فمه يقول ممتصًا شفتيه بحنين وتأثر :
” المقاومة ؟؟ وهو أنتم تعرفوا أي حاجة عن المقاومة ؟؟ ده أنا في مرة كنت قاعد في المكتبة مع ابويا وانا عيل صغير وفجأة لقيت عسكري انجليزي داخل عليا و…”
وقبل أن يكمل حكايتها مالت تبارك على مكتبه تقول بجدية :
” وقالك فين أقرب صيدلية عشان يعالج جرحه وأنت عشان وطني رفضت وطردته من المكتبة، ها فيه ايه تاني؟”
” أنتِ عرفتي منين ؟؟”
” ما أنتِ حكيت ليا برضو كل ده، يا عم متولي أنت بتحكي كده لأي حد يعتب المكتبة حتى لو كان تايه داخل يسألك على مكان ”
فرك متولي رأسه بجهل شديد وقال بجدية :
” والله يا بنتي ما فاكر إني حكيتلك من كتر ما أنا بحكي للناس، فبنسى أنا قولت لمين ومين لا ”
وكانت هذه حقيقة، فذلك الرجل بكامل قواه العقلية، لا يعاني زهايمر أو أي أمراض تصاحب عمره الكبير، كل مشاكله تتمثل أنه كثير الكلام مع أي شخص ولذلك يتناسى ماذا قال لكل واحدٍ منهم .
ابتسمت تبارك تجلس أمامه :
” ولا يهمك يا عم متولي أنا مستعدة اقعد اسمع في القصص بتاعتك ليومين قدام، اقولك أنا ممكن اخلص الشغل بتاعي الاسبوع الجاي كله وكل يوم اجي اسمعك ازاي ساهمت في تحرير مصر من الاحتلال ”
نظر لها متولي من خلف نظارته يحاول معرفة ما تريد مقابل تلك الخدمة الكبيرة التي ستقدمها له، فهو كرجل مسن لا يريد أموالًا أو صدقات من أحدهم أو غيره، هو فقط يحب الرفقة ويحب الحديث مع أي شخص، يحب ألا يشعر بوحدته بعدما أصبح وحيدًا في حياته تلك، هو وكتبه فقط .
” مقابل ايه ؟؟ عايزة ايه وبتزني عليه من الصبح ؟!”
” مش أنت بتقول أنك اتعلمت لغات كتير من قعدتك هنا ؟؟”
ابتسم لها متولي بسمة واسعة وقد حانت لحظته للفخر مجددًا :
” اكيد أنا بتكلم سبع لغات، اتعلمتهم كلهم في اقل من ٣٠ سنة و…”
وقبل أن يكمل سرد قصصه المثيرة قالت له تبارك بلهفة تبتلع ريقها :
” طب أنا فيه كام كلمة سمعتهم في يوم وعايزة …عايزة اعرف معناهم أو على الأقل لغة ايه دي ؟؟”
نظر لها متولي بعدم فهم لتقول تبارك بسرعة كبيرة ما تتذكر من الكلمات في حلمها، والتي على عكس كامل أحلامها كانت واضحة كأنها حقيقة .
” أنا مش فاكرة اوي الترتيب بس كان فيه كلمات زي دلم.. شدة … مش فاكرة بس هي لغة اول مرة اسمعها شبه الهندي ”
صمتت ثواني تحاول عصر رأسها ودون أن تشعر نطقت الجملة كما سمعتها بالضبط، وكأنها لغتها الأم، اخذت تكرر الجملة مرات عديدة وكأنها لا تصدق أنها تفعل .
و متولي يرهف السمع لها محاولًا معرفة ما تريد إيصاله له من خلال تلك الالغاز التي تنطق بها الفتاة، ونظراته تعلوها البلاهة ليقول بعدما انتهت من الحديث :
” أنتِ عايزة ايه بالظبط ؟؟”
” عايزة اعرف معنى الكلام ده او لغة ايه، ما تشوفهم مش انت قاموس متحرك ؟؟”
” لا لا معرفش اللغة دي، مش من السبعة بتوعي ”
تشنج وجه تبارك بغضب :
” يعني يا عم متولي درست سبع لغات وجيت على دي وعطلت، مكنتش عارف تزود سنة اجتهاد كمان ودرستها بدل قعدتك هنا ؟؟”
ضرب متولي مكتبه بعصبية شديدة :
” أنتِ بتزعقي ليه ؟؟ هي دي لغة اساسا، أنا أول مرة اسمع الكلمات دي، بعدين مش يمكن تكوني سمعتي غلط ؟!”
تراجعت تبارك للخلف تخفي وجهها خلف يديها بخوف من انفجار غضبه بها، وهو تنفس بصوت مرتفع، ثم امسك هاتفه يقول بجدية :
” أنا متأكد إن دي مش لغة اساسا، بس عامة اصبري نشوفها على جوجل ”
نظرت تبارك للهاتف الخاص به في صدمة كبيرة، فقد كان العم ايوب يمسك هاتف أحدث طراز، انحرفت نظراتها لهاتفها الصغير الذي يستقر في جيب ثيابها بتعب شديد، مرهق بعدما فتحته فقط لترى الوقت، هاتف قديم الطراز ذو ازرار مُحيت حروفها لكثرة استعماله .
أفاقت تبارك من تلك المقارنة السريعة وهي تجد هاتف متولي يوضع أمام فمها آمرًا إياها بتكرير الجملة علّه يتعرف عليها، وبالفعل فعلت تبارك ما يريد تردد نفس الكلمات التي ما تزال ترنّ في أذنها بصوت واضح أجش دافء ..
وانتظرت ثواني وهي ترى متولي يفحص الهاتف جيدًا ينتظر أن يظهر نتيجة ما نطقت وبعد ثواني قال وهو يرفع عيونه لها بتعجب :
” أنتِ عرفتي منين الكلمات دي ؟؟”
نظرت له بريبة شديدة :
” ليه هي معناها ايه ؟!”
رفع متولي الهاتف في وجهها لتتسع عيونها بدهشة وهي تتذكر النبرة التي نُطقت بها، تطابق النبرة مع المعنى ليرتجف جسدها لا تدري خوفًا أم تأثرًا ؟؟؟
__________________________
” وماذا من المفترض أن يعني هذا أيها العريف ؟؟”
اغلق العريف الكتاب بقوة مما تسبب بتناثر بعض ذرات الغبار التي كانت تستقر على حواف اوارقه متسببة في موجة سعال عنيفة لمرجان، حرك الاخير يده في الهواء كي يتنفس بشكل طبيعي يستمع لصوت العريف يقول :
” يا فتى ألم تسمع باساطير الأسرة الحاكمة ؟؟ تلك الأساطير التي تناقلتها اجيال عدة، ولا يعلم أحد أيهما حقيقة وأيهما تُرّاهات بلا قيمة ”
نظر له مرجان بجهل كبير :
” تقصد تلك الأساطير التي تقول أن الأسرة الحاكمة من نسل سحرة ؟؟”
ابتسم العريف ساخرًا :
” نعم، وتلك واحدة من التراهات، أي سحرة تقصد؟؟ استغفر الله، لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لما وجدت أحد أفراد تلك الأسرة يعتلي العرش، لعُوقبوا جميعًا لارتكابهم ذنب كممارسة السحر ”
صمت ثم قال بجدية :
” أنظر يا مرجان بعض الاساطير تقول أن ملك سفيد الاول حلم برؤية شبه مؤكدة تقول أنه في زمنٍ ما، سيكون هناك ملك غير الملك، وملكة لا تمت للملكة بصلة، وكل ذلك تزامنًا مع منتصف شهر القمر الدموي، وهذا فقط منحصر على سلالته، وهذا الملك الحالي أحد أحفاد الملك الاول وتزامن أمر القمر مع فترة حكمه، وتأخر زواجه وعدم إضاءة الكرة الملكية، يعني أنه لربما يكون هو المعني من الرؤية ”
هز مرجان رأسه يفتح فمه باتساع شديد :
” نعم نعم …مهلًا أنا لا افهم، ما معنى ملك غير الملك وملكة لا تمت للملكة بصلة ؟؟”
” يعني أن هذا الزمان الذي نحياه سيكون الملك غير الملك الذي اعتدنا عليه، ولن تكون الملكة واحدة من الاميرات المتعارف عليهم، بل ستكون امرأة مختلفة، وتقول بعض الاساطير أنها لا تنتمي لعالمنا، بل لربما تنتمي للجانب الآخر من العالم ”
شهق مرجان بصدمة لا يصدق ما يقال يستنكر الأمر بالكامل :
” ماذا ؟؟ من الجانب الآخر، أتقصد أن ملكتنا ستكون من عالم المفسدين، هذا غير معقول ”
” بل معقول، فكر معي ما الذي عطل وصول الملكة حتى يومنا هذا ؟؟ لربما هي لا تدري عن حقيقتها شيئًا ولربما لا تعلم عن عالمنا شيئًا”
” إذن..ماذا نفعل حيال الأمر ؟!”
فكر العريف قليلًا يحاول تقدير الأمر في عقله، ثم قال بتفكير :
” لربما نكثف البحث بين أرفف المكتبة علنا نعثر على شيء، وحينما تتأكد فكرتي سأخبر بها الملك وانتهي منه ومن أمر زواجه الذي يسبب لي صداعًا بالرأس ”
________________________
تسير بين ممرات القصر وهي تستمتع لصوت مسؤولة الخدم اجمعين، تضع وجهها بالأرض تهز رأسها على كل كلمة تنطقها، لا تنبث ببنت شفة تقاطعها، كان وجهها مغطى بقطعة قماش تشبه النقاب ينحدر من أعلى رأسها، فلا يظهر من وجهها سوى أطراف ذقنها كما جميع الخدم في القصر..
تتحرك صوب المطبخ كي تتولى مهمتها بعدما تركت مملكتها وجاءت كي تستقر بهذه المملكة للعمل بقصر الملك .
فجأة انتفض جسدها تسمع صرير السيوف الذي يصدح في المكان بقوة، لتشعر بيدها تتحرك دون إرادة كي تركض وتحمل واحدًا وتمارس ما اعتادت يومًا ممارسته، لكنها توقفت تذكر نفسها أين هي وماذا تفعل، وما الذي اوصلها لهنا …
افيقي كهرمان أنتِ لستِ بمنزلك .
رفعت عيونها ترى فتاة تركض بقوة مصطدمة بها حتى كادت تسقطها ارضًا صارخة بحماس شديدة مثلها كباقي فتيات القصر :
” مبارزة بين الملك و قائد الرماة دانيار ”
تحركت كهرمان بكل فضول صوب نوافذ القصر تبحث لها عن ثقب ترى به تلك المنافسة التي جذبت أنظار جميع من بالقصر لدرجة أن يتركوا أعمالهم خصيصًا لأجل مشاهدتها .
وفورًا وقعت عيونها على رجلين عراة الجذع العلوي أحدهما يرتدي بنطال ابيض والآخر يرتدي اسود ذو نقوش من الذهب خمنت أنه الملك، فقد كان بسعر اسود وعيون خضراء تلتمع أسفل أشعة الشمس، والآخر كان بخصلات شعر سوداء طويلة بعض الشيء واعين زرقاء بشدة يحمل بين كفه سيفًا يرفعه في السماء، ثم يهبط به بقوة عنيفة على الملك الذي يصده، ثم يباغته هو بضربة اقوى من خاصته .
كان الملك يبارز دانيار بكل طاقته، لا أحد في هذه المملكة يستطع التغلب عليه، ولم يحدث أن خرج من ساحة المبارزة خاسرًا سوى مرة واحدة فقط، وهو لن يكررها .
ابتسم دانيار بسمة جانبية يحرك سيفه في الهواء حركات قوية، يسمع صوت الملك يقول ممازحًا :
” يبدو أن ذراعك تبرع في اشياء اخرى غير رمي السهام دانيار ”
ابتسم دانيار يقول باحترام شديد وهو يهجم على الملك :
” سيدهشك ما تستطيع تلك اليد فعله غير حمل السهام مولاي ”
وقبل أن يجيبه الملك بكلمة سمع الجميع صرخات نساء وصيحات قوية متداخلة جذبت الأنظار وجعلت الأجساد تتحفز وبقوة كبيرة .
ثواني حتى وجد الجميع امرأة تركض صارخة بشكل غريب :
” لقد تحررت الثيران من الحظيرة وافسدت كامل المزروعات في حدائق القصر يا مولاي وهي تتقدم صوب المكان بعدما تسببت في أذية بعض العمال ”
تشنج وجه الملك وهو ينظر لدانيار الذي ابتسم يقول بسخرية :
” اوه مشكلة كبيرة تحتاج لتدخل فوري، من سوء حظنا أن قائد الجيوش ليس هنا كي يقودنا للحرب ضد الثيران والأبقار، إذن ماذا تقترح مولاي، هل أطالب باصطفاف جيشي وقتل كل تلك الثيران ”
رمقه الملك بغضب لسخريته، يلقي بسيفه ارضًا متحركًا في المكان وحوله العديد من الحراس يصرخ بهم بلا اهتمام :
” انتم اذهبوا وساعدوا النساء في إبعاد تلك الثيران، هل ترونني متفرغًا لأجل مشاكل كهذه بالله عليكم ؟!”
أطلق دانيار ضحكات عالية على تذمرات الملك، وفي الحقيقة هو لديه كامل الحق، فأي ثيران تلك التي سيهتم لامرها وسط كل امور مملكته ؟؟
هز دانيار رأسه يتحرك صوب الخزانة الخشبية التي يحتفظون فيها بسيوف التدريب، وكذلك يعلقون عليها الثياب، وحينما كاد يرتدي ثيابه العلوية حاد بنظراته صوب شرفات القصر بلا اهتمام، لكن فجأة جذبت أنظاره فتاة غريبة الثياب والهيئة، اطال النظر بها في تعجب شديد، لتنتبه له الفتاة وتبتعد عن النافذة فورًا وهو ارتدى ثيابه يرى انصراف الخادمات وهي معهن .
وقبل أن يتحرك ليعلم من تلك سمع صوت الأبقار يعلو ويعلو بشكل مزعج وقد بدأوا يقتحمون جزء القصر، فالقلعة تتضمن القصر الخاص بالملك و جزء كبير خاص بمزارع القصر وحظائره، وجزء يتضمن اسطبل الخيل ومنطقة المبارزة والتدريبات، واخيرًا الجزء الذي يحوي مقر الأسلحة والجنود ..
انتفض دانيار على صوت صراخ الملك :
” دانيار تخلص من تلك الأبقار ”
اتسعت عيون دانيار بعدم فهم وتشنجت ملامحه بسخرية لاذعة، لا يفهم أي ثيران تلك التي قد يقتطع من يومه لحظات قليلة للتعامل معهم ؟؟
وقبل أن يعترض ولأول مرة على مرة على أوامر الملك سمع اصوات الابقار يعلو بقوة .
زفر واستدار يراقب الرماة يصطفون على جدران القلعة ليقول بغضب شديد وبصوت جهور :
” اصطفــــوا ”
اصطف الجميع بشكل منظف وبسرعة كبيرة ليكمل دانيار أوامره :
” جهزوا السهام …”
وبالفعل تحفز جميع الرجال لكلمة قائدهم، وقد ظنوا أن هناك هجوم على القلعة، لكن اتسعت أعينهم ببلاهة حينما سمعوا صوت دانيار يأمرهم :
” أي ثور يعبر حدود المزرعة صوبوا عليها ….”
علت الهمهمات بينهم والاستنكار ساد الجو، ودانيار لم يعلق فهو يعلم أنهم محقون، لكنه فقط ينفذ الأوامر، زفر يصرخ بهم ..
” انتباه، ونفذوا الأوامر، أي بقرة ترونها على وشك إيذاء فرد من سكان هذا القصر تخلصوا منها، فقط انتظروا لحين نرى نهاية هذه المهزلة ..”
نظر أمامه يرى عاملي القصر يحلقون على الأبقار والثيران الذين كانوا في حالة هرج مخيفة يدهسون من أمامهم دون تفرقة، وهو يراقب بأعين حريصة ينتظر أي فرصة للتدخل، يتمتم من بين أسنانه:
” سيخلد التاريخ أنني كنت أول قائد رماة تغلب على جيش من الأبقار الهائجة، مرحى يا دانيار، أين قائد الجيوش ليفتخر بك ؟؟؟”
___________________
يعتلي فرسه وهو يتحرك به بسرعة كبيرة وبين يديه يقبع سيف ضخم ذو قبضة سوداء ترتسم عليه علامة الفهد، يرتدي درعًا حديديًا يزن وحده العديد من الكيلوجرامات، يتحرك بسرعة مخيفة وخلفه جيش كبير يلحق به وفي أعينهم نظرات سوداء خاوية، وكأنهم ليسوا بشر، بل مجرد الآلات حرب، وهكذا علمهم هو ودربهم، هم في المعارك لا يشعرون ولا يرون ولا يشفقون على أي عدو إلا إذا استسلم …
توقف بحصانه على بداية المدينة التي احتلها بعض المنبوذين يعيثون فيها فسادًا وهي تحت حكم ملكه، تجرأوا ودخلوا ارضًا تخصه هو، أرض يحميها هو .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يرفع رأسه الذي كان مغطى بخوذة فضية اللون يرفع سيفه في الهواء يصيح بصوت جهوري وخلفه مئات الجنود :
” يا رجال أنتم هنا اليد العليا، وأصحاب الحق، تذكروا أننا ما كنا دعاة حرب ولا مسببي خراب، نحن ندافع عن حقوقنا فقط وعن الأبرياء، وقبل أن تدخلوا المدينة تذكروا قول رسول الله لا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا امرأة ولا صبيًا ولا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا ولا مريضًا، لا تمثلوا بالجثث، ولا تسرفوا فى القتل، ولا تهدموا معبدًا ولا تخربوا بناءً عامرًا، حتى البعير والبقر لا تُذبح إلا للأكل”
هلل الجنود خلفه ليعلو برأسه أكثر وترتسم بسمة مرعبة أعلى فمه يصيح بصوتٍ مرتفع يقذف الرعب في قلوب أعداءه :
” الله اكبر …”
ردد الجيش خلفه كلماته وهو يدخلون المدينة يهللون ويكبرون، يقودهم هو بنظرات مرعبة، وملامح مخيفة ..
_____________________
تعود للمنزل بعدما أنهت جلستها مع العم متولي لا تفهم ما يقصد من تلك الكلمات، من ذلك الاحمق الذي يظل يردد لها تلك الكلمات داخل أحلامها، فجأة توقفت أقدامها برعب وقد شحب وجهها تشعر بقشعريرة تمر في جسدها وقد ضربتها فكرة مرعبة للتو .
” معقول يكون …يكون جني عاشق؟”
وعند تلك الفكرة تحركت تبارك بسرعة كبيرة صوب منزلها وجسدها بالكامل ينتفض، تشعر بالرعب أن تكون إحدى ضحايا هذا الأمر، يالله هي ما تزال تتذكر جارتها التي أصابها مس جني عاشق وعانت منه حتى كادت تنتحر لتتخلص من عذابها ..
أي جني عاشق هذا، لِمَ يصفونه بالعاشق، بالله إنه لمُعذب، يعذب من تكون ضحيته، يعذبها ويقتات على روحها حتى تذبل وتصبح بلا روح ..
تنفست تتحرك داخل منزلها تشغل التلفاز على محطة القرآن الكريم، ومن ثم بدأت تتحرك في المكان تفتح النوافذ ولا تعلم السبب، لكنها فقط لا تود أن تشعر بالوحدة، لربما الاصوات الصاخبة من الخارج تساعدها على الشعور بالأنس ..
تنفست تجلس على الأريكة وقد قررت فجأة أن تتوضأ وتصلي لله، لكن وقبل أن تتحرك سمعت صوت شيء قوي يسقط في منتصف البهو لتطلق صرخة مرتفعة مرتعبة تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع، لكن وحينما تبينت هوية ذلك الشيء المخيف والذي لم يكن سوى كرة قدم أُلقيت من النافذة على منزلها، تجعدت ملامحها بغضب شديد تتحرك صوب النافذة حاملة الكرة بعصبية .
سمعت صوت في الاسفل يقول :
” ارمي الكورة يا أبلة تبارك ”
” أنا بس عايزة افهم ايه اللي طلع الزفتة دي لشقتي ؟؟ الجول في الصالة عندي ؟؟ منطقة الـ ١٨ بتعدي من تحت الكنبة ؟! ”
زفرت ثم صرخت بجنون :
” الزفتة دي لو جات هنا تاني أنا هطفحها ليكم نفر نفر سامعين ؟؟”
هز الصبية رؤوسهم فقط كي يجارون حديثها ويحصلون على كرتهم، وبالفعل ألقتها تبارك بغضب شديد حتى أصابت صبي واسقطته ارضًا، لكنها لم تهتم، هي للتو كادت تموت رعبًا، بالله ما هذه الحياة التي تعيشها، زفرت بحنق شديد تتحرك صوب المرحاض كي تتوضأ، وحينما وصلت ورأت شكل المرآة المحطمة وعادت لها الذكرى القريبة التي تعود فقط للامس شعرت بقشعريرة قوية تصيبها .
تنفست بصوت مرتفع تقترب من الحوض ترفع أكمام ثوبها البسيط كي تتوضأ، وحينما كادت تبدأ سمعت نفس الصوت يتردد داخل رأسها بشكل قوي جعلها تعود للخلف بقوة تنظر للمرآة بملامح شاحبة .
تستغفر ربها ثم أكملت وضوءها تهمس لنفسها :
” خلاص يا تبارك دي كانت صدفة، كل دي صدف وتهيؤات مش اكتر، مفيش حاجة حصلت، أنتِ مؤمنة ومحصنة نفسك بالاذكار ..”
أنهت الوضوء تخرج من المرحاض تستغفر ربها تردد بصوت هادئ :
” كله بأمر الله، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
تنهدت براحة لحظية تحضر سجادة الصلاة ومصحفها لتؤدي بعض الركعات لله، وصوت القرآن يصدح في المكان .
وبعدما فرغت من صلاتها ارتكنت بظهرها للاريكة تقرأ بعض آيات القرآن، لكن دون أن تشعر غرقت في نوم عميق دون أي إرادة منها ..
رأت تبارك نفسها تجلس في غرفة واسعة يسودها اللون الاحمر والاسود بشكل قابض للصدر، تستدير في المكان بتعجب، قبل أن تسمع صوتًا يردد جوارها بنبرة هادئة ودودة :
” اونجا هستی پرنسس من ”
نظرت له تبارك بتعجب شديد تحاول رؤية ملامحه، لكن كل ما رأت منه هو جسد ضخم بعض الشيء، جسد رياضي قوي يرتدي بنطال اسود مطرز بشكل محترف وسترة علوية مطرزة بنفس التطريز، توقف أمامها وهي تنظر للأعلى تحاول الوصول لوجهه، لكن لم تستطع وكأن هناك غمامة تخفي ملامحه، ابتسم لها ذلك الرجل يميل ببطء صوبها هامسًا أمام وجهها بنبرة حنونة :
” همه جا دنبالت بودم ”
وتبارك فقط تحدق في جسده تحاول التحدث، تعجز عن الكلام تريد أن تخبره أنها لا تفهم ما يريد، لا تعلم ما يقصد، أين هي بالمناسبة ؟؟ هل هي في أحد افلام بوليوود ؟؟ من هذا الممثل ؟؟ هل هو سلمان خان ؟؟ استغفر الله هي توقفت عن مشاهدة تلك الأشياء منذ سنوات هل عادوا فقط ليراودونها عن نفسها ؟؟
فجأة تيبس جسدها حينما شعرت بقبلة تحط بكل حب فوق وجنتها لتتسع عيونها بصدمة تشعر برغبة عارمة على الصراخ، وهو همس لها :
” من به دنبال شما خواهم آمد، منتظر من باشید ”
واخيرًا استطاعت تبارك الحديث وتخلت عن دورها الصامت في هذا المكان الغريب الذي لا تعلم هل هو فيلم ام حلم أم كابوس، لكن مع هذا الرجل الوسيم لا تعتقد أنه كابوس لربما هو رؤية حلم به فتنة لها ..
” أنت مين، وبتقول ايه ؟؟”
ويبدو أن كلماتها التي خرجت منها وصلت له واضحة إذ ابتعد عنها يرمقها باستنكار وكأنها للتو ألقت له بكلمات غريبة، ليس وأنه هو منذ وطأ لذلك المكان الذي يشبه القبر يضمها ويقبلها كما لو كانت ابنة اخيه، ذلك الوقح، الحقير .
ولم تدري تبارك أن كل ما تفكر به ترجمه لسانها لتتسع أعين الرجل يقول بتعجب :
” ألا تعلمين من أنا ؟؟ أنا الملك …زوجك ”
في تلك اللحظة انتفض جسد تبارك عن الأريكة تتنفس بعنف شديد وقد كان جسدها متعرقًا بقوة شديدة :
” ما أنت بتتنيل بتتكلم عربي اهو، لازمتها ايه الفيلم الهندي ده ؟!”
نظرت حولها وانفاسها ما تزال سريعة، ذلك الحلم كان كالحقيقة، حقيقة رأتها بأم عينيها وشعرت بها، حتى أن أحضانها ما تزال دافئة بسبب عناقه ووجنتها، تحسست وجنتها، لتشعر فجأة بالرعب يتلبس قلبها :
” جن عاشق ؟؟ طلع جن عاشق، يا مرارك يا تبارك…..”
_________________________
” وجدناها يا مولاي …وجدناها يا مولاي ”
كانت تلك صرخات مرجان الذي يركض في ممرات القصر يبحث عن الملك وخلفه العريف يسير مبتسمًا متبخترًا وفوق كتفه ترتاح بومته العزيزة التي كانت تبتسم نفس بسماته وتمظرنفس نظراته، كما لو كانت طفل صغير يقلد حركات والده.
اقتحم مرجان قاعة العرش يردد وهو يرفع بين يده بعض الأوراق والمخطوطات يقاطع جميع من بالقاعة من مستشارين وكبار المملكة :
” لقد وجدناها يا مولاي، وجدنا الملكة”
انتفض الملك عن عرشه يولي كامل انتباهه للعريف متجاهلًا مرجان الذي توقف أمامه مبتسمًا يلوح بالمخطوطات في الهواء :
” هل ما يقوله ذلك الشاب صحيح أيها العريف ؟؟”
” اسمي مرجان ”
لكن الملك لم يهتم قائلًا :
” هل ما يقوله صحيح ؟؟ ”
هز العريف رأسه ينتزع الاوراق من بين انامل مرجان الذي صاح مستنكرًا من تهميش دوره في هذه اللحظة :
” مهلًا أنا …”
وقبل أن يكمل كلماته أشار له العريف أن يصمت، وكذلك البومة رفعت أصابع قدها تشير له بالصمت، وهو تذمر يتوعدها بعيونه ..
تقدم العريف من الملك يقول بجدية :
” نعم يا مولاي وجدنا الملكة …”
نظر له الملك بلهفة كبيرة ليكمل العريف :
” بعد مراجعة الخرائط والنظر في الكتب التي تحتل مكتبتي العظيمة مولاي اكتشفت …”
تنحنح مرجان يشير لنفسه مرتفع الرأس، ليلوي العريف فمه بحنق شديد :
” ومرجان أيضًا ساعدني قليلًا ”
ابتسم مرجان بفخر شديد يهز رأسه:
” نعم يا مولاي كان لي دورًا كبيرًا في …”
ودون أن يمنحه العريف فرصة للحديث، دفع بوجهه بعيدًا يقترب من الملك تحت أنظار مجلس المملكة يقول بكبرياء كعادته ينظر للجميع من علياه وكأنهم جميعهم أسفل أقدامه :
” كما قلت مولاي، استطعت أن اكتشف مكان الملكة، وربطت ما يحدث بما قيل لنا منذ عقود وقرون عن سلالة ملك سفيد الاول ”
” ماذا تعني أيها العريف ؟؟ أين هي ملكتي وما سبب تأخرها ؟!”
تنفس العريف بصوت مرتفع ثم قال :
” ملك إيفان، يؤسفني القول إن النبوءة التي تنبأ بها العديد من كبار الممالك قديمًا بشأن قدوم ملكة من ارض المفسدين، هي من نصيبك أنت ”
ابتسم وكأنه يتشفى بملامح الشحوب التي تخللت وجه إيفان يقول بجدية :
” مولاي أنت ببساطة لم تعثر على ملكتك ولم تضء كرة العرش باللون الازرق، لأن الملكة تقبع هناك، في ارض المفسدين ……”
________________
نعم ها هي الرحلة بدأت…
والرحلة ما هي إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
دمتم سالمين
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية مملكة سفير)
Source link