روايه نيران الهوى كامله بقلم رانيا صلاح
من خلال موقع بليري برس تستعرض معكم في هذا المقال ،روايه نيران الهوى كامله بقلم رانيا صلاح ، لمزيد من التفاصيل حول المقال تابع القراءة
أشرقت الأرض بنور ربها، وارتفع صوت زقزقة العصافير فوق الأغصان وهي تُغرد فرِحه باستقبال يومٍ جديد، ومن بين نور الصباح الرائق في هذا اليوم سقط أحدهم على ذاك البيتُ العتيق في إحدى الأحياء الشعبية، وعلى وجه التحديد تلك النافذة ببيت (المعلم حلاوة) المُطلة على شارع الحارة الرئيسي، لتحمل ذرات الهواء صوت الباعة المُتجولين وهم يصيحون بما لديهم من خُضار طازج، ليتحد هذا مع صوت…امرأه في بداية عِقدها السادس، تتحرك بتثاقُل شحيح؛ بفعل وزنها الزائد مع تقدُم العُمر… فيصدُر جلبابُها المزركش حفيفًا شحيحًا، ضاع بين أصوات حُليها، لتطرُق باب غرفتهُ بحدة بعض الشيء وهي تُصيح بصوتٍ عالٍ :
-“منصور” يا “منصور”.
بصوت يغلبهُ النُعاس، رغم خيوط الصباح الساقط على جفنيهِ بعناد صريح تودُ إيقاظُه بشدة، فتتسرب الحروف من بين شفتيهِ :
-ايوه يا “أما”.
عندما التقطت أُذنيها صوته، فتحت باب الغرفة، وتحركت من موضعها بجوار باب الغرفة، لتجلس بجواره على ذاك السرير من الاعمدة الحديدة القديمة، الذي يُنافي المُتبقي من أثاث البيت، زفرت بحنق :
-“منصور” قوم يا يابني الصبح طل من بدري.
اعتدل في سريره، لترتسم ابتسامة رزينة بقدر رجاحة عقلهُ ولما لا فرغم سنوات عمرهُ الثلاثون أستطاع أن يفعل الكثير، أهمهُما إعادة ورشة والده للعمل من جديد، وإنشاء معرض للأثاث بإحدى الأحياء الراقية، ومكانتهُ المُهيبة بين قاطني الحارة صغيراً كان أو كبير، وبنبرة رزينة :
-صباح الخير يا “اما”.
احتل التذمُر وجهها وبتعبير مُبطن عن حنقها :
-صباح النور، يلا قوم عندك شُغل.. وسُرعان ما همت؛ كي تخرُج من الغرفة ولكن كانت يداهُ الأسرع…
لاحظ جيداً عبوس وجه والدتهُ، وتلبُد معالمها الحسناء رغم تلك الخطوط الزمنية التي تحتل وجهها بجدارة، ولكن تلك الخطوط لم تُفلح في الاقتناص من حُسنها شيئاً بل زادت منهُ جمالاً، يحمد القدير أنهُ لم يأخُذ منها تلك الملامح، يكفيه ذاك الطابع من الحُسن الذي يُزين ذقنهُ:
-زعلانه ليه يا “أم منصور”؟.. ولم يكُن سؤلاً بقدر ما كان يُريد لها أن تُفجر غضبها فتعود وجنتيها للضحك من جديد.
أجابت بنبرة لائمة :
-هتعمل نفسك متعرفش، كُنت فين إمبارح؟.. كده تدبسني مع الناس ومتجيش.
كاد أن يتحدث ليقطعهُ صوت طرقات على باب الغرفة من تلك الصغيرة المُشاكسة، التي دائماً ما تُسبقُها خُصلات شعرها الفحمي ، ليتنهد برضا وتتسع ابتسامتهُ تدريجياً لها؛ فهي ابنته قبل أن تكُن اخته، لا يعلم متى كبرت هكذا وكأن السنوات تحولت لثواني، اليوم اول أيامها بالجامعة ولا يُصدق هذا….
بمرح كالمُعتاد، انبثقت شفتي “رقية”:
-ابنك اتجوز ياماما، سيبك منو وجوزيني أنا.
ارتفعت يدها تلقائياً؛ لتضرب صدرها شاهقه، وبعين يملأها الذهول :
-اتجوزت من ورايا يا “منصور “.
نظرة زاجرة أطلت من عيناهُ، لتُصدر أسنانه الانذار بالغيظ :
-اتجوزت ايه بس يا” اما”، دي روكا بتسرح بيكِ.
ابتسمت “رقية” بخُبث، وحركت حاجبيها بمُشاكسة، لتُكمل وكأنها لم تفعل شيء:
ايدك على المصاريف يا “صوصو” ، خليني الحق المُحاضرات.
ضربة “سناء” كلا كفيها بالأخر :
-أما اقوم بدل ما تموتوني،… وتحركت مُسرعة لخارج الغُرفة؛ كي تُجهز طعام الإفطار لابنها..
ظلت تُراقب أختفاء والدتها بين رواق البيت، وبصوت هامس:
-عملت أيه يا “صوصو” ؟…. استنيتك كتير بس أنت اتاخرت.
جحظت عيناهُ؛ من ذاك الاسم الذي تُناديهِ به، ليقبض بقوة على ملابسها كمن وجد سارق، وبنبرة عدائية :
-مين دا الي “صوصو”؟..
حاولت جاهده تخليص نفسها من بين يديهِ، ولكن لا فائدة، لتُصيح بصوت ساخط:
-خلاص أخر مره، سيب هدومي..
ترك ملابسها ليُردف :
ما أنتِ عارفه يا روكا كنت بسلم الدفعة الجديدة.
شعرت بالإحراج قليلاً، لتنفرج شفتيها عما يعتلي رأسها :
-كده دفعت آخر دين للبنك صح.
أراح رأسهُ للخلف، ليُغلق جفناهُ، و بهدوء يغلب عليهِ التلبُد :
-ايوه، يلا عندك مُحاضرة.
لتهب واقفه ، وترفع احدي يديها بجوار رأسها في حركة مسرحيه :
-تمام يا بوص، بس ايدك على المصروف.
و بتساؤل صريح :
-وفلوس امبارح يا لمضة؟.
ارتفعت يدها وبدأت بحك مؤخرة راسها بإحراج :
-بص أنت هتصدق صح،…. ولم تُعطيهِ مجالاً لرد لتُتابع استرسالها، أصل إمبارح بقا دفعت فلوس المشروع الي قولتلك عليه وأنا فلست، يلا بقا ايدك على فلوس.
تحرك باتجاه دولابه؛ ليُخرج ملابسه، وبصوت عالً بعض الشيء يشوبه الحنان الذي يُنافي تعابير وجههُ الصارمة، وبشرتهُ الخمرية:
-فلوسك على المكتب، ولو احتاجتِ غيرهم خدي من البنطلون ، وتحرك مُفسحًا لها المجال؛ كي لا تشعُر بالحرج منهُ ..
انفرجت شفتيها عن بسمة رقيقة تُبرز جمال غمازتيها، لتهمس بحنان لم يُبارح صوتهُ شفتيها :
-ربنا يخليك ليا…. لتتحرك مُسرعة وتأخذ ما ينقصها قبل أن تُمسك بالجُرم المشهود من والدتها …
___
وعلى الجانب الأخر من الحارة، و تحديداً في تلك العمارة التي تتواجد بها المقهى حيثُ تنبعث رائحة البُن فتتخلل ذرات الهواء بكُل ود، فتمتزج مع صوت المذيع في إذاعة القرآن الكريم “بريد الإسلام”،… ليبدأ “سيد” بالتحرك وسط الزبائن مُلبياً النداء، وابتسامه بشوشه تُزين وجهه، ويرتفع صوتهُ بتلك النبرة الشهيرة :
-أيوه جاي، ولكن قبل أن يذهب لمن يُناديه كان يضع كوب من الشاي أمام مكتب صاحب القهوة “المعلم فرج”، وقبل أن تتحرك قدماهُ قيد انملة..
اخذ” فرج” نفساً من الإرجيله “الشيشة” ، وتحول العبوس إلى وجهه، ليُلقي بها أرضا، وبنبرة مرتفعة :
-“سيد” غير الحجر الكارف دا.
اقترب “سيد” من مكتبه وانحني؛ كي يحملها بهدوء، ليتحرك مُسرعاً ليجلب غيرها، وعيناهُ تخونهُ بالنظر من آن لأخر إلى الشارع، لتعود عيناهُ مُسرعة إلى الساعة المعلقة على الحائط، ليجدها تجاوزت السابعة والنصف، وهي لم تظهر، ليزفر بضيق، فها هو يوم آخر يمُر دون أن يلمح طيفها، ليصدع عقلهُ نهاراً؛ على التفكير بها.. أخذ الارجيلة بهدوء فهو أصبح مُعتاد على تذمُر “عمه” في الآونة الأخيرة…
___
لتبدأ الشمس بإرسال خيوطها الذهبية على ذاك المبنى، لتصدُر الحركة من الدور الثاني، حيثُ يقنطهُ عائلة “المعلم فرج”، تحركت “بدرية” ببطء يُناسب وزنها الزائد بعض الشيء ؛ كي تفتح نافذة الصالة فيتجدد الهواء بالمنزل، وقبل أن تسقُط عينها أرضً، اذا بصياح ابنها من الغرفة، لتتنهد بقلة حيله وتتجه نحو غُرفته، وما هي الا ثوان وكانت تقف أمام غرفتُه، وبصرامة خافته لا تليقُ بها؛ بذاك الوجه الطفولي الذي يُنافي بشدة سنوات عمرها الأربعين وكأن الزمن لم ولن يستطع المرور بجوارها، و بتساؤل :
-في أيه يا “رامي” على الصبح كُل يوم صوتك يسمع أخر الشارع.
تذمر بضيق، وهو يُجيب :
-الهانم خدت التيشيرت بتاعي أروح الجامعه أزاي دلوقتي!.
تحولت نظرتها اللائمة باتجاه “مريم” وهي توبخه :
-تاني يا “مريم” قُلتلك مية مره بلاش تاخدي لبس اخوكي، انا عارفه ايه الي عاجبك فيه؟..
حركت “مريم” حاجبيها بعند ل “رامي” وسُرعان ما رسمت قناع البؤس:
-والله يا “بداره” مخدتش غير واحد بس وهو عندو كتير ومش بيرضي يشتريلي، يرضيكِ كده.
ضربت “بدريه “كلا كفيها بالأخر، وهي تُتمتم :
-عوض عليا عوض الصابرين يا رب.
انفرجت شفتيهِ بلهجة تحذيرية :
-أنتِ يا زفته إياكِ تيجي جنب دولابي تاني فاهمه؟
لم يظهر عليها أدنى تعبير بالخوف، وببرود:
خوفت أنا صح، والله لأقول لبابا.
زفرت بيأس؛ من تصرُفاتهم الصبيانية، وبلهجة شبه حادة؛ لتُنهي الجِدال القائم :
-بلاش غلبة كُل يوم ،… وأشارت لكُل منهُما… يلا يا رامي على جامعتك، وأنتِ يا “روما” هتروحي دروسك ول لسه تعبانة؟
اكتفت بابتسامة، وبمرح :
لا يا “بداره” أنا كويسه، يدوب اجهز وانزل.
قابلت ابتسامة ابنتها بأُخري تقطرُ حنان:
-طيب يا “روما” اجهزي عقبال ما أجهزلك فطارك.
بتذمر صريح :
-وانا ابن البطة السودة مفيش، هجهزلك فطار يا “رامي”.
قهقهت بشدة وحركة رأسها بلا فائدة :
-امال لو تؤام كُنتُ عملتوا أيه؟.. ولا أكنكم مولودين فوق روس بعض.
حركت “مريم” حاجبيها بمُشاكسة، وشاركت والدتها الحديث :
-معرفش ليه يا “بدارة ” يكونشي عشان أنا أصغر وعينيا ملونه وهو لا.
ليُضيف بعبوس شديد:
بس يا ماما، قال ملونه قال مين ضحك عليكِ، دي حياالله لون واحد.
ظهر التذمُر جلياً على وجهها الطفولي ، وأكملت :
لون واحد مين يا ابني، هي مراية أوضتك انكسرت،… وتحركت صوب الشمس لتُظهر عينها، وهي تُشاكسه :
-أخضر دا ول مش أخضر يا بتاع الجامعة.
صاحت “بدرية” بحدة؛ فقد تعِبت من مُشاكساتهم :
بطلوا غلبه، ويلا كل واحد على مصلحتو.
__
ومن بين تلك الخيوط الذهبية سقط أحدُهم على الدور الثالث، حيثُ يقطنهُ عائلة “حلمي” ، لتمتزج الخيوط مع صوت الهاتف المُزعج، لتبدأ يدها بالبحث عن الهاتف لتجد الساعة تجاوزت السابعة والنصف، فتحاول فتح جفنيها ولكن صوت والدتها من الداخل، اتحد مع صوت طرقات قوية على باب البيت..
لتُصيح “فاطمة” بصوتٍ عالٍ :
-“ياسمين” يا اااا “ياسمين”.
بتكاسُل شديد وعين حمراء تخللت بركتي العسل من قلة النوم ، وبصوت نائم :
-صحيت يا ماما، وتحركت لتفتح الباب دون النظر، لتعود ادراجها للداخل من جديد.
أغلقت “رقية” الباب خلفها:
-ايه يا بنتي هو أنا بايته عندكم ، ايه المقابلة دي!..
لتُكمل الطريق إلي غرفتها، وبنوم :
-روكا انا نايمه خمس الصبح، عندك ماما في المطبخ.
تحركت “رقية” صوب المطبخ، وهي تهمس :
-رخمة، وبصوت عالٍ بطة يا بطتي.
ارتفع صوت “فاطمة” من الداخل، وهي تدعوها للدخول :
-تعالي يا روكا حماتك بتحبك.
بمرح كالمعتاد:
-ايوه بقا يا بطه، بس ايه الوليمة دي؟. أنتِ هتجوزي برعي ولا أيه! .. وتحركت لتجلب طبق لها.
حركت “فاطمة” فمها بحنق :
-جتك ايه يا روكا، طب أنا فيها لما “ياسمين” تتجوز، بس اعمل أيه؟.
وقفت بجوارها وبدأت بالتذوق من الطعام، وهي تبدو مستمتعة للغاية :
-طمطم، اكسبي ثواب فيا واعمليلي فطير هموت عليه، و سونه مش راضيه تعملهولي.
بحنان يشع من عينها تأثرت بحديث” رقية” :
-يا قلبي يا بنتي،.. وسُرعان ما أشارت لها تجلب علبة الدقيق.. هاتيلي الدقيق يا روكا عقبال ما أغرفلك، وقبل أن تُكمل حديثها..
دخلت “ياسمين” المطبخ وهي تُكمل جمع شعرها :
-ديما روكا بتضحك عليكِ يا ماما، يلا يا مفجوعة هانم.
تجلى العبوس على وجهها، وكادت ان تغص في الطعام فتُسقط الدقيق أرضً :
-ملكش دعوه يا برعي، وبعدين أنتِ مالك ولا عشان منفسنة من عودي الفرنساوي.
تحولت عينيها الي بركة من الدماء، وبسخرية لاذعة :
-فرنساوي مين! دا أنتِ خلة سنان، فوقي لنفسك يا ماما.
تجلت الصدمة على وجه “رقية”، وبعدم تصديق :
بقى انا خلة سنان يا طمطم!..
حاولت “فاطمة” جاهده كتم ضحكاتِها، ولكن عينها خانتها وانفجرت شفتيها بالضحك…
اكملت بعبوس طفولي :
بقى كده يا طمطم، أنا ماشية خلي حد غيري ياكل أكلك…وتحركت للخارج تُتمتم بغيظ.
انفرجت “ياسمين” ضاحكة مع والدتها :
-هتموتني ينفع كده.
-تحركت “فاطمة” لتُغلق الموقد، وبتساؤل :
على فين بدري كده؟.
-أجابت “ياسمين “:
هنقل المعدات للورشة، واشتري شوية حاجات.
ودعتها بحنان، وبتحذير :
متتأخريش، “ياسين” هيوصل أمتي؟
حركت رأسها بنعم :
-على المغرب تقريباً، يلا سلام يا ماما..
لمحة خافتة من الحزن ظهرت كبزوغ شمس الظهيرة على صفحات وجهها، لتسقُط في مرارة الذكري …
قبل ستةَ أشهر كان زوجها قد فارق الحياة، لتجد أكبر صفعه يومها تلك الوصية الخاصة به، التي توجب بالعثور على ابنته، تلك الصدمة التي أصابت روحها بخنجرٍ صلد… لتفق من شرودها على تلك الرائحة النافذة، لتشهق بصدمة فقد شاط الأُرز…
__
وعلى الجانب الأخر كانت كُلاً منهما تنزل الدرج والمرح يعتلي وجوههم، ليتوقفوا أمام باب البيت بفعل تلك السيارة الكبيرة من فئة “النقل مُعبئة بالأثاث”، وقبل أن تُحاول كِلامها التحرُك كانت فتاة بملابس واسعه تكاد تبتلعُها، وحجاب يُزين وجهها الخمري، وبسمة بشوشه تُزين وجهها تقف أمامهم :
-صباح الخير.
ابتسمت “رقية” وببشاشة مُماثلة :
-صباح النور.
-“وداد”:
لو سمحتي فين بيت المعلم “فرج”.
وبابتسامة لم تُفارق وجهها :
-هو البيت دا، الدور التاني، وقبل أن تُكمل كلامها…
كان المعلم “فرج” يظهر من العدم وابتسامتهُ اللزجه تكشف عن ذاك السن الفضي… وبلهجه شديدة الترحاب:
-إزيك يا ست “وداد”.. ومد يدهُ في سلام .. ليتجلى الضيق على وجهه بسبب…
اكتفت بابتسامة مُحرجه، وتمتمت بهدوء:
-معلش يا معلم مبسلمش على رجاله.. لتسمع صوت اصطكاك أسنانه مع ضحكة مكتومه، جعلتها تبتسم بود لهم.
ازاح يدهُ في حرج، ونفس البسمة اللزجه تُزين ثغره الذي يحتله شارب كثيف، تخللهُ بعض الشيب :
-ومالوا يا ست “وداد”، اتفضلي معايا.. ولكن قبل أن يتحرك اذا بأحدهم يُقبل وجنتيهِ..
-“مريم ” :
صباح الخير.
وبابتسامة صادقة :
-صباح الفل والسرور، على فين يا سُكره.
أطلقت أنفاسها بتذمُر:
-على الدروس طبعا، باي يا حبيبي.. وتحركت سريعاً غافله عن عين تشتاق لها…
__
كان “سيد” يُقدم احدي المشروبات للزبائن، ليصدع خفقان قلبه كقرع طبول الحرب، مُخبره عن من تملك الثائر بين أضلُعه يأبي الصمود، لتبدأ عيناهُ بالبحث عنها سريعاً، ولكن…
فتح” منصور” ورشة والدهُ وعاد؛ كي يطلب الشاي، وليري بوضوح عيني “سيد” وهي تقطُر عشقاً، ليتحرك مُسرعاً، وبنبرة تحمل الضيق :
-الشاي يا “سيد”.
شعر بالحرج من نظرات “منصور” وكأنه مُسكَ بالجُرم المشهود، ليضع الشاي دون أن تنبث شفتاهُ بتحية الصباح كالمعتاد، واستدار مولياً ظهرهُ، ليتوقف مع صوت “منصور”…
-وبعدين يا “سيد” لو مش عشان لقمة العيش، يبقي عشان عمك.
زفرة مريرة كمرارة العلقم كانت، توضح كم النيران المُشتعلة بصدره، وبسخرية :
-عارف كويس يا “منصور” اني عاوزها في حلال ربنا، بس أنت شايف، وبنبرة لاذعة، بشتغل قهوجي وحقي مش عارف أخدوا، متخفش يا صاحبي مملُكش غير نظرة تطفي نار قلبي.
تحرك “منصور” ليربت على كتفه :
-والنظرة نار، غض البصر يا “أبو السيد”.
” يا آدم أُخبرُكَ سراً، أن حواء لن تكُن لكَ وأنت تستبيح ما حرمهُ الله، لذا احذر، وهج عيناكَ عند طيفها المُحبب”
زفر ببطء مُتعمد، وهو يُراقب تلك النظرة من عيني صديقُه، و لكنهُ قرر التجاهل…
لم يرى جنون كهذا من قبل، وبنبرة حانقة :
-أنت الي راضي رغم شغلك في المعرض..
أصبح وجه “سيد” مُلبد لا يشف الكثير، و بهدوء :
-لا يا “منصور”.
كاد “منصور” أن يقتلع شعرهُ من منبته، بسبب تفكير “سيد” الغريب، يتذمر من المقهى، ويرفض الذهاب للعمل بمعرضهما:
-يا ابني المعرض محتاج حد فينا، وأنت شايف شغل الورشة.
“سيد” بنفي قاطع لا يقبل الجدال :
-لا يا “منصور”؛ بكره نزل اعلان وتكاليف الي هيمسك الشغل من نصيبي، وتحرك مُسرعاً دون انتظار ردُه.. تحرك وعقلهُ لا يقبل مُجرد التفكير أن يبتعد عن مُحيطها، تلك الجنية الصغيرة التي سلبتهُ قلبه منذُ أن كانت تلعب بالدُمي، تحمل الكثير لأجلها، لا يُمكنهُ الابتعاد عن رؤيتها صباحاً ومساءً فهذا ما لديه، ليزفر أنفاسُه ببطء؛ عل هذا يُريح خفقان قلبه … ويتحرك مُستجيباً لنداء، غير مُبالي بصوت تحطُم أسنان صديقة :أيوه جااااي
زفر “منصور” بيأس من ذاك الابله، يُقسم أنهُ لا يملُك أدنى ذرة عقل، يعلم جيدًا بمكنون صدرهُ اتجاه أبنة عمه، ولكنه يعلم جيدًا أن هذا مُحال؛ فما بين “سيد” و “فرج” اكبر بكثير من أن يُقدم ابنتهُ لابن أخيه، بينهم نيران الماضي واشواك المستقبل؛ وكُل هذا لأجل هذا البيت أمام الذي امام عيناهُ،… زفر بتمهل واستدار مولياً ظهرهُ للقهوة، و يداهُ تعبث بأكمام قميصهُ ليترك الهواء يتحالف مع ساعديهِ، ليبدأ عمل اليوم، ويسقُط عقلهُ في صراع حاد مع الحسابات…
__
فتح “فرج” النافذة، وهو لا ينقطع عن حديث يعرفهُ الجميع، عن ذكر محاسن تلك الشقة:
-والله يا ست “وداد” ما في احلى منها في الحته كُلها،.. وأشار بيدهُ لنافذة الشرفة :كفايا هواها الي يُرد الروح، وكُل حاجه قريبه منك.
قررت التزام الصمت لحين أن ينتهي من حديثُه، فهي بالكاد تحملها قدماها، التقطت عدة أنفاس، ورسمت بسمة مصطنعة :
-يا معلم “فرج” المبلغ الي طالبو كتير، وأنا مش هأجر شهر ولا اتنين، هدفع سنه مُقدم.
وبتعبير مُبطن :
-الا لمؤاخذه في السؤال حبتين، امال فين أهلك؟.
فهمت جيداً ما يتوارى خلف تعبيرهُ، فالتزمت قناع الجدية، وبصرامة :
-ودا لوه علاقة بالإيجار يا معلم، وبعدين أنا أخترت هنا عشان عارفه كويس ان الحارة فيها رجاله وولاد أصول، ولا أيه يا معلم؟..
كأن أحدهم سكب دلواً من الثلج فوق رأسه، فأكمل بإحراج الشديد، ورفع يداهُ يمسح بعض قطرات العرق الواهية، فقد تيقن أنها ليست كما ظن، وبجدية :
-معلوم يا ست “وداد” بس أنتِ عارفة كويس؛ أننا حارة والداخل بينا خارج، ولما حد لا مؤاخذة يسئلني لازم ابقى عارف، ولا ايه؟..
ببسمة فاترة، ونبرة تحمل قليلاً من المدح :
-عداك العيب يا معلم، وبما أنك قد أبويا الله يرحموا، فواجب تعرف عشان ترد الغيبة..
بدأ السخط جلياً على وجه ؛ بعد تعبيرها أنهُ بمثابة والد، ولكن قبل أن يُبدي سخطهُ، كان صوت زوجتهُ يعلوا..
دخلت “بدرية” الشقة وهي تبتسم فبدت أقرب إلى طفلة لم تتجاوز الثامنة عشر، وبتعابير مُرحبة :
-سالخير عليكوا، نورتِ يا ست البنات، يا ألف أهلاً وسهلاً.. واقتربت منها بود؛ كي تُقبلها بحفاوة..
ابتسمت بصدق لتلك السيدة، وببشاشة توازي ودها الظاهر :
-أهلاً بيكِ، دا نورك والله يا خالتي.
زادت ابتسامتها اتساع مع الحفاوة المُقابلة :
اسم النبي حارصك وصينك، والله وما ليكِ عليا حلفان أنا قلبي اتفتحلك، من اول ما شوفت طلتك من البلكونة.. وقبل أن تُكمل حديثها قاطعها صوت…
وبلهجة صرامه :
-خلاص يا” بدرية” سيبي الست “وداد” ترتاح.
شعرت بالخيبة وتجلي هذا بوضوح في عينيها، الزرقاء التي باتت كبحرً فقد موجه..
سارعت “وداد” بالحديث، تُنفي ضيقها المزعوم من حديث “فرج” :
-عشان خاطر الست “بدرية” موافقه على الإيجار، دا كفايا وجهها الحلو اصطبح بيه كُل يوم..
ابتهجت ملامحها، كطفل وجده حلواه، وباتت الابتسامة تشقُ وجنتيها، وبفخر لمدح “وداد” :
-أن شالله يخليكِ يا “وداد”، ومن النهاردة اعتبريني في مقام أُمك، واشارت بيدها لفرج، والمعلم” فرج” زي ابوكِ، وأن احتاجتي أي حاجه متتكسفيش، وأن شاء الله تبقى جيرة الهنا…
كاد أن يُلقي سيل ساخط من اللِعان لزوجته، ولكن إبتلع الحديث بحلقه، وعلى مضض:
-عنيا لست “وداد”.
جاهدت” وداد” لكبت ضحكاتِها، ولكن لم تُفلح في إخفاء ابتسامتها :
-جهز العقد يا معلم.
صدعت زغروطة قوية من فمها ؛ بعد امضاء العقد :
-سكن الهنا يا “وداد”.
حركت راسها بحبور نحو “فرج”، بنبرة تحمل الامتنان :
-الله يهنيكي ..
– يلا بقا فوتك بعافية، وتحركت للخارج…
_
خفقان قلب
“نبرة هادرة تُخالف كُل الظنون، ليست نبرة الهوي فحسب، بل نبرةُ الاكتمال وآدم هائمٌ يبحثُ عن حواء ..”
وعلى الجانب الأخر من الحارة، كانت “ياسمين” تقف أمام محلها بعبوس، تركل الباب الحديدي من آن لأخر بقدمها، وهي لا تنفكُ عن السخط :
-مكنش لازم اسمع كلام “روكا” ومنغيرش الباب دا،…. وركلت الباب بعُنف أكثر، فهي لم تستطع رفعهُ، لملمت شعرها الحريري؛ الذي تمرد كعادتهُ على عِقالُه، وسارعت بإخراج هاتفها؛ كي تستعجل وصول العمال، فأمس انهت تشطيب المحل بالكامل، واليوم ستضع المُعدات، ولكن قبل أن تُجري الاتصال توقفت سيارة من فئة النصف نقل أمامها، فسارعت بإدخال هاتفها، وبجدية :
-صباح الخير.
سائق العربة :
-صباح الفل يا ست “ياسمين”، و باعتذار معلش على التأخير؛ العربية عملتها معايا.
حركت رأسها بتفهم :
-ولا يهمك يا اسطى، يلا دخل الحاجات… لكن عينها من آن لأخر تسقُط على الطريق، تشعُر بأن هُناك خطب ما، أو اعيُن تُراقبها، وعند هذا الحد، تمرد القابع بداخلها، ليخفق لذاك…. وامتنع عقلها عن ذكر اسمهُ؛ خوفاً من ذاك الشوق الذي يُرق مضجعها كُل ليلة، لينتشلها من شرودها…
-“السائق” :
يا ست “ياسمين”.
لم تشعر بمرور النصف ساعة، فقد كاد عقلها أن يستجيب صاغراً لذاك الأحمق بداخلها، فرسمت بسمة واخرجت حافظة نقودها :
-تسلم يا “أسطي”….وما هي الا ثوان وسارعت بحمل بعض الأكياس مع حقيبتها لتُدخلها إلى المحل، وهي تشحن طاقتها بيوم عمل، فبات يومان على الافتتاح….
وعلى الجانب الأخر من الطريق ارتفع صوت “سائق التاكسي” بضجر :
-في ايه يا هندسه، هنفضل واقفين كده كتير.
بجمود يُنافي قرع الطبول بداخلُه لرؤيها، تلك التي سلبتهُ النوم، وحرمتهُ حقهُ المُباح بعشقها، ليُتمتم بسخط، قبل أن يرتدي قناعهُ البارد، وتُغلف عيناه السوداء كصقرٌ جارح، وبنبرة مُميته:
-قُلتلك هتاخد الي أنت عاوز.
ابتسم “السائق” بلزوجه:
-طيب يا هندسه.
تركهُ “حسن” يُتمتم، وسلط عيناهُ على ذاك المحل في الجانب الأخر من الشارع، يُراقب حركتها، فقد بات مُحرم عليهِ الكثير، خاصة مع وعدهُ، لصديقهُ “ياسين” أنهُ سيبتعد عن مرماها، التقط أخر نفس من الهواء، الذي بات يحمل عبقها، وهو يُمني نفسهُ بالكثير، وأولهم سينال ودها من جديد، حتى إذا كسر راسها الصلب… ليقطع حديثهُ رنين الهاتف، ليُلقي نظره على اسم أخيه “أيمن” :
-ايوه يا بوص.
ارتفع صوت “أيمن” الغاضب:
-فين أوراق التوكيل.
حاول تهدئه أخيه :
-نص ساعه وأكون عندك بالورق.
بنبرة مُميته :
-عشر دقائق وتكون قدامي، وأغلق الهاتف والقاهُ أرضً، ليتحرك صوب مكينة القهوة بمكتبه، أو على حد صحيح تلك الغُرفة من الشقة التي اشتروها سوياً لتصبح مكتبً للديكور، أخذ كوب القهوة، وتحرك ليقف أمام النافذة، يستقبل ذرات الهواء بصدرٍ رحب يرجو منهُ أن يُعيد ترتيب ما بعثرتهُ الأيام بالداخل، ولكن هيهات لعقلهُ الغافل، ليترشف رشفه أُخري من الكوب، و يستعيد توازنه، ليبدأ بترتيب خُصلات شعرهُ الفحمية؛ التي تبعثرت بفعل الهواء، ليقتنص من الهواء شهيقاً قوياً وكأن ملاكُ الموت ينتظرهُ، ليبتعد مولياً ظهرهُ للنافذة؛ كي يُعيد ترتيب مكتبهُ الذي أشبه بحاوية قمامه؛ يومان قضاهُما في تلك الغرفة لم يبرحها لأي سببً كان، يكتفى بهاتفه للاطمئنان على ابنته ،ويعود من جديد يعتكف على حاسوبه؛ من أجل تلك المُناقصة لإحدى الشركات المرموقة، أن رسى عليهم العطا سيكُن بابً أخر لهم في عالم الأعمال ولن يقتصر على بعض المنازل فحسب بل سيكُن لهم بصمة، ليزفر بضيق؛ من تلك الفوضى لتدور عيناهُ سريعاً من مكتبهُ الذي يتوسط الغُرفة، الذي اختفت معالمهُ بفعل الأوراق، والجدار من خلفه لم يعد يظهر لو طلائُه؛ بفعل المُلاحظات التي قام بلصقها، وتلك الاريكة والغطاء الذي يقبع جُزءً عليها والمُتبقي أرضً بجوار تلك المنضدة الزُجاجية التي تحتوي على كثير من علب البيتزا، ليصدع عقلهُ بقول “ياسين” الدائم، مكتبك أشبه بمكب النُفايات، لتظهر بسمة على وجنتيهِ فتُبرز تلك الغمازات، ليتحركَ عازماً على التنظيف..
__
احتلت الشمس كبد السماء، وباتت تلك النافذة تصنع من ذرات التُراب غُبارً يتطاير في كُل أرجاء البيت،… زفرت “وداد” بضيق؛ فقد مضى أكثر من ساعتان وهي تُزيل الغبار وتُنظف الأرضية، رفعت يداها ونظفت الغبار المُمتزج بقطرات العرق على جبهتها، ودارت عيناها برضى على المكان، لتبدأ رحله أخرى من البحث؛ فعندما وضعت يداها لتُشغل التلفاز، فرقع وحدث عُطل كهربي بالشقة بأكملها، قررت ارتداء حجابها والنزول لسيدة “بدرية”؛ من أجل الحصول على كهربائي، ولكن….. بعد ثوان كادت تغلق باب شقتها وتنزل الدرج لتجد، سيدة بمنتصف العِقد الخامس، وجهها يُزينهُ بسمة طيبه، و ترتدي جلبابً منزليً أسود، وتُغطي شعرها بوشاح مُماثل، ابتسمت في ود لها :
-مساء الخير.
-“فاطمة” :
مساء النور، أنتِ الساكنة الجديدة؟..
حركت رأسها بابتسامة :
أيوه، أسمى “وداد”
ابتسمت “فاطمة” ببشاشة :
– عاشت الاسامي، وأنا أم “ياسين” وبيقولي يا بطه.
-فين محل الكهربائي الي هنا؟.
– على أول الشارع، استنى هجبلك رقم المحمول من جوه، وما هي الا دقيقتين وخرجت بورقه تحتوي على الرقم… اتفضلي يا حبيبتي.
أخذت “وداد” الورقة، وشكرتها، وعادت أدراجها للداخل تبحث عن الهاتف..
__
خرجت أنفاسها بإرهاق شديد، تتحرك من هنا إلى هناك، بسرعة تفوق قدرتها، تُريد أن تُرهق قلبها الأحمق، وعقلها النائم في مهده يأبى الانصياع ويتمرد على ما كُتِبَ، ظلت تدور كثيراً، إلي أن عجزت عن التحمُل، لتنفجر شفتيها بالكثير مما يعتلي صدرها، وهنا عرِفت الدموع طريقاً لوجنتيها، وكأن خيط الدمع الحار يُنبتُ التوهج بثمرتيها العطبة، تحركت يدها لتمسح ذاك الخيط بنفور تشمئز منهِ، تشمئز لكونها غفلت عن الحاضر، عن قانون البشر أن من يُحب وجب عليهِ الفراق، فمن يحصل على من يُحب رفاهية لا يمتلكُها الكثير، قانون آمن وصدق أن كينونتها لن ولم تكُن لهُ، ستكتفي بنيران أشواقها من عِشقً ميؤوس منه لتُكمل الدرب، بمرارة العلقم يكفيها كُل ما كُتِبَ وعُرِفَ عنهُ تلك اللعنة… ولكن هيهات يداها لمست تلك الطارة الخشبية، فتحركت يدها بوجل شديد؛ وكأنها ستلمس شيئاً نادر الوجود ،هشٌ للغاية، ولما لا فتلك الطارة من صُنع قلبها، لحبيب القلب الراحل بين طيات الحياة، رفعت الطارة وعينها تلتهم ما كُتِبَ عليها والذكرى تُومض من جديد…
كانت تُصفق فرِحه، وتُهلل بابتسامة خلابة لا تليق سوي بزهور الياسمين، وعيني الليل الكاحل :
-مش مصدقة نفسي يا “حسن”، أخيراً اول أورد أسلموا والبنت فرحانه بيه أوي….ولكن لا مُجيب، لتُصيح بتذمُر : “حسن”.
فاق من شرُوده في ابتسامتها الجذابة، وذاك الصفُ من البرد المتواري خلف ستائرها، وعينها الضاحكة قبلهُما :
-بتقولي حاجه.
وبنبرة إجراميه :
-سرحان في ايه يا “حسن”؟.
دون أن تحيد عيناهُ عن بسمتها :
-طارة الياسمين.
بتعجب :
-ياسمين أيه يا حسن؟.
-عاوز هدية عيد ميلادي طارة الياسمين، كُل حاجه تكون بنكهتك، مش عاوز غير الياسمين…..
لتنقطع الذكري مع رنين هاتفها، لتُخرجهُ من جيب بنطالها المُهتري، وغيمة كثيفة ترقُد فوق ليلها، جمعت العديد من الأنفاس؛ كي تقتُل تحشرج صوتها :
-أيوه يا “روكا”… لا خليكِ انا خلصت كُل حاجه، ونص ساعة وهروح عشان “ياسين”… وسُرعان ما أغلقت الهاتف وسارعت بتعليق الطارة على الجدار خلف مكتبهُما، وعيناها تستقر على… دائرة بيضاء نُقشت عليها زهور الياسمين، وخيط اسود ليد تحتضن أُخري بتملُك ونقش من حروف العشق بنكهتها كما تمني، ولكن حروف اللُغة تنحت عن الاكتمال لنهاية الجُملة العالقة فقد كُتِبَ “من طرق بابٌ بالود فهو مُقيماٌ بالقلب،…”
_
بوجه مُكفر يملأهُ الغضب، وتحولت ملامحه لأُخري لا تُبشر بخير، وكأن احدهُما قُتل، صفع باب البيت خلفهُ، وتحرك لغرفتهُ، وهو يتمتم بسخط..
كانت “بدرية” جالسه على مائدة الطعام وهي تُقلم البامية، لتجد الباب يُفتح على مصرعيه، ودخول ولدها بوجه مُظلم، حتى أنهُ لم يُبالي بإلقاء السلام، رفعت صوتها :
-“رامي”… ولكنه لم يستمع أو على حدٍ صحيح قرر التغاضي ليصفع باب غُرفته من خلفه،… دب الذعرُ بقلبها، وباتت وحوش القلق تنهشُ روحها، لتترك ما بيدها وتهرع صوب غرفته..
جلس على سريره، بضيق بالغ، وعقلهُ يُومض بتلك اللحظات في الجامعة…
عندما رآها تخرُج من المدرج، قرر الذهاب إليها، وعيناهُ تروى الكثير :
-“رقية”.
تفاجأت من وجوده وبذهول لم تستطع إخفائه :
-“رامي” !..بتعمل إيه هنا؟.
شعر بالحرج الطفيف، و بهدوء رفع يدهُ المُمسكة بالقلم وكشكول :
-مفيش كنت بجيب جدول محاضراتي،…وقرر التزام الجهل :أنتِ دخلتِ أيه؟.
انقلب السحر على الساحر، بمرح يشوبه السخرية :
-دا مبنى تجارة، فمش محتاجه سؤال..
حك مؤخرة رأسه :
-لا مقصدش، اقصد تخصص عربي ولا أنجلش.
باقتضاب:
-عربي… ورفعت يدها تنظر إلى الساعة، وبنبرة مُعتذرة: معلش يا “رامي” أنا اتأخر سلام… وركضت في لمح البصر دون انتظار رده..
انتشلهُ من شروده صوت والدته..
اطل القلق من عينها، وبتساؤل:
-مالك يا حبيبي؟.
باقتضاب، فهو غير قادر على الحديث :
-مفيش يا “بداره”.
جلست بجواره، ورفعت يدها النظيفة؛ كي تربُت على كتفهُ، وبنظره تسبر أغواره :
-على “بدرية” يا واد.
شعر أنهُ مُحاصر، وفر هاربً من جوارها مُتعللاً بتبديل ملابسُه، وقبض على درفتي الدولاب بقوة :
-مفيش يا “بداره”، واخذ ملابسُه وتوجه إلى الحمام، أو ربما فر من الحصار…
__
أنهى “منصور” تلك القطعة الخشبية، وتوجه ليغسل يداهُ؛ لإزالة غُبار النشارة الخشبية، وما هي الا ثوان وجلس على مكتب والدهُ الراحل، مكتب قديم برائحة الماضي، و عليهِ بعض الرسوم من الفترة الزمنية الشهيرة بنجارة “الأرابيسك”، جلس على كُرسيه المصنوع بنفس شكل المكتب ليفتح احدي الإدراج، ويُخرج احدي الاجندات، ليُمسك قلماً ويبدأ بشطب اخر صفحه بها، ف بالأمس استطاع سداد أخر دين لوالدهُ واثنا عشر سنة يعمل دون كلل أو ملل لأجل تلك النقود التي أخذها والدهُ ولا يعلم أين ذهبت، نصف مليون جنية، أين وضعهم والدهُ… زفر بهدوء وكانت تلك اول مرة يُمكنهُ التنفُس دون الخوف من الغد، خوفً من شهر ينصرم يلحقهُ أخر وهو لم يعلم كيف سيُدبر دين البنك الشهري “عشرة اللالف” بعد مفاوضات عدة مع البنك ان يخفض من عشرون ألف لعشر والنهاية، زاد الدين لما يُقارب النصف ليُصبح سبعُمائة وخمسون ألف…. ليقف مع أصوات تلك النزاعات القادمة من القهوة..
في نهاية مقال روايه نيران الهوى كامله بقلم رانيا صلاح نختم معكم عبر بليري برس