رواية قيد القمر ( كاملة جميع الفصول ) بقلم نهى طلبة
من خلال موقع بليري برس تستعرض معكم في هذا المقال ،رواية قيد القمر ( كاملة جميع الفصول ) بقلم نهى طلبة ، لمزيد من التفاصيل حول المقال تابع القراءة
رواية قيد القمر الفصل الاول
انطلق بوق السيارة أكثر من مرة وبإلحاح دفع صميده البواب إلى الهرولة رغم سنواته الستون حتى يفتح البوابة الضخمة التي تفصل قصر “عبد الرءوف الجيزاوي” عن الخارج..
فتح صميده بوابة القصر ليجد سيارة رؤوف تدلف داخل القصر بسرعة شديدة..
رؤوف هو الحفيد الذكر الوحيد لـ”عبد الرؤوف الجيزاوي”, والذي سُمي تيمناً باسم الجد ولكن تحول الاسم مع الأيام إلى رؤوف.. هو شاب غاية في النشاط والإلتزام, من يعرفه لا يصدق أنه على أبواب الحادية والعشرين فهو شديد الجدية والصرامة لا تكاد التقطيبة تفارق جبهته.. حاجباه متعاقدان دائماً وكأن مطلوب منه حل مشاكل الشرق كلها.. ولكن من يعرف الجد معرفة وثيقة لا يتعجب من ذلك.. فرؤوف تم تنشئته وتوجيهه بين يدي الجد حتى أصبح نسخة مصغرة منه تقريباً.. يعتنق نفس أرائه وينتهج نفس أسلوبه الحازم..
اسم العائلة ومصلحتها لها الأولوية دائماً حتى على مصلحة بعض أفراد تلك العائلة أو سعادتهم!!!..
ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف أن رؤوف شاب غاية في الوسامة والجاذبية فبطوله الفارع وكتفيه العريضين مع ملامحه الداكنة شديدة الرجولة هو حلم لنصف مراهقات البلدة وفتياتها, ولكنه بحكم تربيته وتفكيره لا يلتفت لتلك التفاهات كما يسميها..
فهو وُلِدَ رجل كما لقنه جده والرجل الحق لا يلتفت لتفاهات الغرام والنساء بل تلك الأمور تكون فقط للصبية والمراهقين..
ترجع قوة تأثير الجد في نفس حفيده بسبب قيامه برعايته بعد وفاة والده عبد الله ووالدته زينب في حادث سيارة منذ خمسة عشر عاماً.. وكان رؤوف تخطى عامه الخامس حين وجد نفسه يتيم الأبوين وحل جده مكانهما في حياته وقلبه.. لذا وبعكس اندفاعه المحموم للولوج إلى القصر تحرك بتثاقل نحو غرفة جده وهو لا يعلم كيف يمكنه نقل الخبر الأسود إليه..
طرق باب غرفة جده ثم فتح الباب ليجد جده غارق في خشوعه وهو يتلو بعض آيات الذكر الحكيم.. فوقف رؤوف بهدوء ظاهري عكس ما يعتمل داخله وهو في انتظار أن ينتبه جده لوجوده… وهو ما حدث بعد عدة دقائق…. حيث التفت الجد إلى حفيده:
ـ ماذا وراءك يا رؤوف؟.. لما أتيت في هذا الوقت من النهار؟..
تقدم رؤوف من جده وجثى بجانبه وهو يقبل ظاهر يده:
ـ صباح الخير يا جدي.. كيف حالك؟.
تعجب الجد ورمق حفيده بنظرة متفحصة وهو يقول بحدة:
ـ ماذا بك يا رؤوف؟ هل تركت الشركة في ذلك الوقت من النهار لتسألني عن أحوالي؟..
ازدرد رؤوف ريقه بعصبية فهو غير معتاد على تقريع الجد له:
ـ جدي.. أمممم.. جدي…
صاح الجد بغضب وهو ينهض من كرسيه:
ـ رؤوف.. هات ما عندك.. فلا وقت لدي أو لديك لهذا التردد.
وجد رؤوف أن المواجهه هي أفضل حل.. فنظر في عيني جده وهو يقول:
ـ جدي إنك رجلٌ مؤمن.. ولم تعترض يوماً على قضاء الله..
قاطعه جده:
ـ هل الأمر يتعلق بعمك عبد الرحمن؟.. هل هو مريض؟.. أم..
ترك سؤاله معلق فلسانه لم يطاوعه لينطق الكلمة..
تعجب رؤوف من فراسة جده, وروحه الشفافة التي استشفت الكارثة رغم عدم وجود مقدمات لها, فنكس رأسه ليخفي بضع دمعات ترقرقت في عينيه:
ـ البقاء لله.
ترنح الجد في وقفته فتحرك رؤوف مسرعاً ليدعمه وهو يرافقه ليعود إلى مجلسه.. سأله الجد بصوت خفيض مكسور يسمعه للمرة الأولى:
ـ ماذا؟.. كيف؟..
أدرك أن جده يطالبه بالتفاصيل فحاول أن يراوغه:
ـ جدي يجب أن ترتاح.. دعني اتصل بالطبيب ثم..
قاطعه الجد بشراسة:
ـ أخبرني يا رؤوف.. كيف؟.. هل كان حادث سيارة آخر؟..
تنهد رؤوف وهو يجيب جده:
ـ كلا يا جدي.. لقد كنا معاً في المصنع عندما شعر عمي بألم شديد في كتفه الأيسر.. حاولت أن أقنعه بأخذه إلى المشفى لكنه رفض.. ثم طلب الذهاب إلى المنزل.. و… و.. قبل أن نصل…
صمت ولم يجد ما يضيفه…
ساد الصمت لعدة دقائق ورؤوف يتأمل جده يحاول تبين تلك القوة التي يتمتع بها الرجل.. فقد علم للتو بأنه فقد ابن ثانٍ ومع ذلك يبدو في غاية الثبات…
ثم سمع جده يهمس في صمت وكأنه كان بداخل عقله يقرأ أفكاره:
ـ “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”..
فأجابه رؤوف:
ـ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تنحنح ليجلي صوته:
ـ جدي..
عاد جده لمقاطعته:
ـ رؤوف يا بني.. إنني أعتمد عليك اليوم.. حاول أن تنهي جميع الإجراءات قبل غروب الشمس… أنت تعلم أن عمك عبد السلام لا قِبل له بمواجهة المصائب.
تقدم رؤوف منه وهو يجيبه:
ـ حسناً… يا جدي.. لا تقلق, سأُنهي كافة الأمور.. ولكن هل أنت متأكد أنك لا تحتاج إلى طبيب؟..
أجاب الرجل المسن:
ـ كلا يا رؤوف.. فقط استدعي عمتك قمر.
ـ بالطبع يا جدي.
*********************
أنهى رؤوف كافة الإجراءات المطلوبة لدفن عمه.. وكلف رجاله بإقامة سرادق ضخم للعزاء, يليق بعائلة الجيزاوي أكبر عائلات تلك المحافظة في جنوب مصر..
أذهل “عبد الرؤوف” الجميع كالعادة بصلابته وقوة إيمانه وهو يرفع التابوت الذي يحتوي على جثمان ابنه مع الرجال ويصر على ذلك, رغم محاولة رؤوف لمنعه.. ولكن الرجل المسن تمسك بالتابوت وكأنه يريد أن يحتفظ بآخر لحظاته مع ابنه قبل أن يواريه التراب..
عاد الجميع إلى قصر الجيزاوي.. وذلك لتناول الغذاء كما تقتضي العادات.. وكانت مأدبة كبيرة تولت قمر الإعداد لها بمساعدة العديد من النساء اللذين قام رؤوف باستئجارهن لمساعدة عمته… كما حضرت لتقديم المساعدة شموس زوجة عبد السلام الابن الأصغر لعبد الرؤوف هي وبناتها الثلاث.. سهير, وقمر, ونادية.. اللاتي كن في حالة ذهول وخوف مما يرينه حولهن من مظاهر البكاء والنحيب..
فقالت قمر لزوجة أخيها:
ـ شموس.. فلتصعد الفتيات إلى الطابق العلوي الآن حتى لا تصبن بالهلع..
أجابتها شموس:
ـ أنتِ تعلمين أن نعمات زوجة المرحوم عبد الرحمن نائمة في الطابق العلوي بعد أن حقنها الطبيب بذلك العقار المهدئ بعد انهيارها في المقابر, وأخشى أن يزعجنها.
ترقرقت الدموع في عيني قمر وهي تقول:
ـ نعم.. لقد انهارت المسكينة تماماً..
ثم عادت تقول لشموس:
ـ ولكنكِ أيضاً بحاجة إلى الراحة.. فأنتِ حامل والاجهاد ليس في صالحك..
وأردفت وهي تقول بلهجة ذات معنى:
ـ إن شاء الله يكون ولد هذه المرة.. فبناتكِ بحاجة إلى أخ ليكون سند لهن.
تمتمت شموس:
ـ إن شاء الله.
أخذت شموس بناتها الثلاثة وخرجت من المطبخ حتى لا تسمع المزيد.. فهي تعلم أنها لم تنجب لزوجها إلا البنات وجميع من في العائلة ينتظر جنينها بلهفة هذه المرة عله يكون الولد المنتظر…
لا تدري لم يُركز الجميع عليها وخاصة قمر التي دائماً ما ترمي بمثل هذه التعليقات.. لما لا تجدها تُسمع نعمات مثل تلك التعليقات فهي لم تنجب من الأساس لا بنات ولا بنين.. لقد مات عبد الرحمن رحمه الله بدون أن يترك أي ذرية…
انتبهت شموس تلك اللحظة أن عائلة الجيزاوي كبرى عائلات وجه قبلي وأكثرها ثراء, لا وريث لها إلا رؤوف و…. الطفل الذي يقبع في أحشائها…. إذا كان ذكراً..
***************************
وقف رؤوف بجانب جده وعمه بداخل سرادق العزاء المهول, ورغم أنه أقيم على عجل إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور إمارات ثراء ونفوذ عائلة الجيزاوي, بدء من المقرئ الذي يتردد اسمه في القنوات الفضائية والذي تم استدعائه من القاهرة إلى المعزيين أنفسهم وهم من كبار رجال المحافظة والمسئولين واللذين قدموا لتقديم واجب العزاء في الفقيد الشاب، فعبد الرحمن مات قبل أن يبلغ الأربعين..
كانت تلك المعلومة هي ما يتهامس به الجميع.. رجالاً كانوا أم نساءً.. ولكن عند النساء كانت الحوارات تزيد عن الهمس.. فمنهن من كانت تتحسر على شبابه, ومنهن من كانت تهمس بموته دون وريث أو ذرية.. ومنهن من كانت تتحسر على عائلة الجيزاوي نفسها.. فيبدو أن أبنائها يموتون في شرخ شبابهم.. فكما مات عبد الله الابن الأكبر منذ خمسة عشر عاماً وكان شاباً في عشريناته.. ها هو أخاه عبد الرحمن يلحق به.
بدأت بعض النسوة في التساؤل إذا ما كان مصير عبد السلام آخر الأبناء وأصغرهم سيكون مماثلاً!!.
كانت الصغيرة قمر كعادتها الفضولية تتسلل لتكون بجانب عمتها قمر.. فالصغيرة قمر.. أو نور القمر وهذا اسمها.. هي المفضلة عند العمة.. ودائماً تخبرها أنها تشبهها, ليس في الشكل ولكن في الطباع والقوة.. ولكن نور القمر بسنواتها الثمانية لم تكن تفهم تماماً ما الذي تقصده عمتها… بقولها.. إن قلبها يحدثها أن مصير عائلة الجيزاوي مرهون بنور القمر..
بينما كانت تتحرك الصغيرة قمر بين النساء باحثةً عن عمتها بدأت تلك الهمسات تصل إلى أذنيها, وبدأ عقلها الصغير يستوعب أنهن يتنبأن بوفاة والدها… فتوجهت قمر بكل قوتها نحو تلك السيدة التي تتنبأ بوفاة عبد السلام, لتنهال عليها بقبضتها الصغيرة:
ـ أنتِ كاذبة.. أبي لن يموت, هو لن يتركني.. أنتِ شريرة.
استمرت قمر بضرب السيدة التي حاولت تفادي القبضة الصغيرة وهي تقول:
ـ توقفي يا فتاة, توقفي يا بنت شموس.. صحيح قليلة أدب..
صاحت الصغيرة:
ـ لست قليلة أدب, ولا تناديني بنت شموس, أنا ابنة عبد السلام وحفيدة عبد الرؤوف الجيزاوي.
ثم داست على قدم السيدة المذهولة وانطلقت مسرعة إلى حديقة القصر تبحث عن والدها قبل أن يختطفه الموت منها…
في تلك الأثناء كان الجد شعر بتوعك خفيف فعرض رؤوف عليه أن يقوم بايصاله لغرفته ولكنه رفض بصلابة وطلب من حفيده أن يذهب لإحضار دوائه من غرفته.. وبالفعل كان رؤوف في طريقه ليلبي طلب جده عندما اصطدم بتلك الفتاة المسرعة كالسهم…
فأوقف قمر وثبتها من كتفيها وهي تتلوى تحت يديه القويتين:
ـ ماذا بكِ يا فتاة؟.. إلى أين أنتِ ذاهبة يا قمر؟..
ـ دعني.. دعني.. أريد الذهاب إلى والدي.
صاح بها في غضب:
ـ هل جُننتِ يا فتاة؟.. كيف تريدين الذهاب إلى مجلس الرجال؟.. اذهبي إلى الداخل فوراً.
انفجرت قمر بالبكاء مما صدم رؤوف الذي نظر إلى وجهها وقد أغرقته الدموع, فعاد يسألها:
ـ ماذا بكِ؟.. لم تبكين؟….
ارتمت الصغيرة على ساقي رءوف فقد كانت صغيرة الحجم وتبدو أقل من عمرها, وزاد بكائها وهي تسأله:
ـ رءوف.. هل صحيح أن والدي سيموت هو الآخر مثل عمي عبد الرحمن؟..
رفعها رءوف على كتفه فهي كانت خفيفة الوزن للغاية وهو يسألها بانزعاج:
ـ من أخبركِ بتلك السخافات؟.
أخبرته من وسط دموعها:
ـ النساء في الداخل يقلن ذلك.. لم يقلن مثل ذلك الكلام البشع؟.
ربت على شعرها وهو يقول:
ـ إنها سخافات مثل ما أخبرتكِ.. لا ترددي مثل ذلك الحديث مرة أخرى, وإلا سيغضب منكِ الجد.. هل تريدين إغضابه؟..
هزت رأسها بالنفي.. فقال لها:
ـ حسناً.. سأصطحبكِ الآن للعمة قمر.. فكُفي عن البكاء.
مسحت قمر دموعها بظاهر يدها, وحاولت أن تمسك دموعها وهي تنفذ كلام رؤوف الذي سلمها لعمته قمر التي أتت مهرولة بحثاً عن الصغيرة بعد أن أعلمتها النساء بالداخل عن تصرف قمر, فأخبرها رؤوف بما سمعته الصغيرة حتى تبعدها هي وأخواتها عن مثل تلك السخافات.
***************
وصل رؤوف إلى جده وناوله دواءه وطلب منه الجلوس ليرتاح قليلاً.. فاستجاب له الجد وجلس ليستعيد ذكريات يوم مماثل مر عليه أكثر من خمسة عشر عاماً.. وذلك حين أبلغوه بوفاة ولده الأكبر عبد الله هو وزوجته في حادث سيارة تاركين خلفهما حفيده الوحيد رؤوف الذي تولى رعايته وتربيته ليكون الرجل القادر على تولي أمور العائلة من بعده هو وعبد الرحمن…
لكن عبد الرحمن الآن توفى.. ولم يبقَ سوى رؤوف حفيده وعبد السلام ولده والذي لا يمكنه الاعتماد عليه في تولي أبسط الأمور.. حمداً لله على وجود رؤوف فهو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في الوقت الراهن..
عادت تداهمه ذكريات دفن ولديه مرة ثانية.. فمن كان يصدق أنه من سيقوم بدفن أبنائه وليس العكس.. هل كتب عليه أن يتمتع بالثروة الطائلة والنفوذ ويُحرم من وجود أبنائه حوله.. يا الله.. إن الفطرة الطبيعية تحتم أن يكون الولد هو من يقوم بدفن أبيه وتلقي العزاء فيه, وليس العكس…
عاد ليستغفر الله, فتفكيره هذا اعتراض على قضائه.. واستمر في التسبيح والاستغفار عله يتغلب على لحظة الضعف التي أصابته ولكنه بدأ يشعر بالآلام تهاجمه.. وتزداد عليه وصعب عليه إلتقاط أنفاسه وفكر أنه أخيراً سيلحق بولديه…
لمح رءوف حبات العرق تتلألأ على جبين جده فتحرك نحوه مسرعاً:
ـ جدي.. جدي..
******************
نقل الحاج عبد الرؤوف إلى المشفى إثر أزمة قلبية طفيفة ورافقه ابنه عبد السلام وظل رؤوف في سرادق العزاء.. فهذا واجبه, وبرغم القلق الذي يعصف به على وضع جده الصحي إلا أنه ظل ينتقل بين المعزيين ثم أشرف على تقديم العشاء لمن لم يلحق مأدبة الغذاء فتلك تقاليد لابد من اتباعها وتنفيذها وذلك ما يريده جده منه بالتأكيد.. وظل يؤدي واجبه المفترض حتى رحل آخر المُعزيين..
وصل رؤوف إلى المشفى وهناك أخبروه أن حالة جده بدأت تستقر ولكن يجب أن يظل تحت الملاحظة لعدة أيام…
*************
كانت نعمات شاردة وسط بحر أحزانها وهي جالسة في غرفتها بقصر الجيزاوي, تتساءل عن مصيرها الآن وقد مر على وفاة عبد الرحمن أكثر من ثلاثة أشهر, وبقي من عدتها شهر وبضعة أيام.. فهل ستستمر في الإقامة في القصر؟.. وبأي صفة؟..
صحيح أن الحاج عبد الرؤوف سيتمسك بوجودها في القصر, ولكن كيف تبقى وبأي صفة؟.. خاصة وهي أرملة الآن والقصر يسكنه رؤوف مع جده.. وهي وعبد الرحمن لم يُرزقا بأي أبناء رغم محاولاتهما العديدة, وهي برغم تعجبها من كبير العائلة الذي لم يحرجها أو يزعجها بكلمة تجرحها لتأخرها في الإنجاب إلا أنها ممتنة لذلك, فهي تدرك أهمية وجود ذرية ووريث لرجل بمثل ذلك الثراء وخاصة إذا كان صعيدي..
إذاً لا شيء يربطها بتلك العائلة الآن ويجب عليها الذهاب.. ولكن كيف تذهب؟.. وإلى أين؟.. فعائلتها لم يتبقَ منها أحياء تقريباً وكان عبد الرحمن هو كل من بقي لها.. والآن بعد ذهابه فأين سترسو بها الحياة؟..
**********
أغلق رؤوف الهاتف مع المحامي وهو يحاول أن يقرر إذا ما كان سيخبر جده بتلك المصيبة أم لا؟… ولكن كيف لا؟.. وهو يحاول إيجاد حل لتلك الكارثة منذ أن سمع بها أي منذ أسبوع كامل ولكنه عجز أن يجد مخرج كما عجز المحامي أيضاً..
أخيراً حسم أمره وقرر إبلاغ جده, فهو الوحيد القادر على إخراجهم من ذلك المأزق.
*****************
دخل عبد السلام على والده وتقدم ليقبل يده وهو يقول:
ـ السلام عليكم, يا أبي كيف حالك اليوم؟..
رمقه عبد الرؤوف بنظرة متفحصة وهو يحاول تصور رد فعله على ما سيخبره به, ما سيطلبه منه:
ـ أنا بخير يا عبد السلام, كيف حال شموس والبنات؟.
أجابه عبد السلام:
ـ بخير حال يا حاج.. لقد أبلغني رؤوف أنك تريد رؤيتي بصفة عاجلة..
عاد عبد الرؤوف يتفحصه مرة أخرى بصمت.. وهو يفكر.. إنه وسيم حقاً.. أوسم رجال عائلة الجيزاوي, ببشرته الفاتحة وشعره بسواده الفاحم ونعومته التي تحسده عليها النساء.. عيناه فقط هي العامل المشترك بينه وبين رجال الجيزاوي, تلك العينان الخضروان برموشهما الكثيفة وإن كانت نظراته تتميز بالوداعة على عكس نظرات ابنيه رحمهما الله أو رؤوف حفيده مثلاً الذي يتميز بنظرات متحفظة قوية وعند الحاجة تتحول إلى الشراسة والعنفوان…
طال صمت عبد الرءوف مما دفع عبد السلام للقول:
ـ ماذا في الأمر يا أبي؟.. هل أنت مريض مرة أخرى؟.. إن صمتك هذا يسبب لي القلق.
أجابه عبد الرؤوف:
ـ اجلس يا عبد السلام, واطمئن فالمرض لم يعاودني مرة أخرى.. كما أن نعمات تحرص على اعطائي الدواء في مواعيده وتراعي أنواع الأطعمة الصحية في غذائي, جزاها الله كل خير.. إنها جوهرة غالية.
لم يفهم عبد السلام سبب ذكر نعمات في المحادثة ولم يجد ما يقوله سوى:
ـ جزاها الله خيراً, يا والدي.
فاجئه الرجل المسن بسؤال مباشر:
ـ ما رأيك في نعمات يا عبد السلام؟..
ـ ماذا تقصد يا أبي؟.. إن نعمات هي زوجة أخي رحمه الله.
أدرك عبد الرؤوف أن ابنه يفهم ما يدور في ذهنه ولكنه يتعمد اظهار سوء الفهم, فقرر مصارحته بالحقيقة كاملة:
ـ عبد السلام.. أنت تعلم أن عبد الرحمن هو من كان يتولى إدارة شئون العائلة والأعمال في الفترة الأخيرة..
أجابه عبد السلام:
ـ نعم يا أبي.. لكني لا أدري ما علاقة ذلك بكلامك عن نعمات؟..
رد الأب بنفاذ صبر:
ـ كُف عن مقاطعتي يا عبد السلام.. والآن.. ماذا كنت أقول؟.. آه.. نتيجة لتولي عبد الرحمن كل أعمالنا قمت بعمل توكيل شامل له.. ولكن…
صمت الرجل قليلاً كأنه يجد صعوبة في التلفظ بالكلمات..
ـ عبد الرحمن احتاج لطلب قرض كبير ليقوم ببناء مدينة صناعية كبرى باسم العائلة.. لذا قام بضم جميع الأملاك وباعها بيع رسمي لنفسه.. وأصبحت كل أموال وأملاك العائلة ملكاً له ليقدمها كضمان لذلك القرض.
وضع عبد السلام وجهه بين يديه وهو يقول:
ـ يا إلهي.. هل أضاع عبد الرحمن جميع ما نملك؟..
صاح الأب بغضب:
ـ بالطبع لا.. ألم تسمع كلمة مما قلت؟.. إن الأملاك باسم عبد الرحمن والبنك أوقف إجراءات القرض الآن في انتظار الورثة ليستكملوا باقي الإجراءات أو لا.. فأوراق القرض لم تكن انتهت تماماً..
تمتم عبد السلام وقد بدأ يفهم ما يرمي إليه والده:
ـ الورثة؟!!… أنت تقصد…..؟.
أجابه الأب دون مواربة:
ـ نعم.. أقصد.. أقصد أن نصيب نعمات الآن من ميراث عبد الرحمن- الذي هو كل أملاكنا- سيتسبب في أزمة مالية لنا في السوق.. ولا نستطيع فصل الأملاك أو تحديد ما يفترض أن يكون لها..
صمت قليلاً ثم أضاف:
ـ لذا.. يتوجب عليك يا عبد السلام أن تتزوج من نعمات.. أرملة أخيك!!.
الفصل الثاني من هنا
في نهاية مقال رواية قيد القمر ( كاملة جميع الفصول ) بقلم نهى طلبة نختم معكم عبر بليري برس